بين الحقيقة والخيال| الشجر.. يثمر ظلالًا أيضًا.. فوكنر العظيم!

في أكسفورد، ميسيسيبي، حيث تتداخل أشجار البلوط مع همسات الجنوب الأمريكي، عاش ويليام فوكنر، شاب نحيل ذو عينين عميقتين تحملان أعباء العالم. كانت حياته كلوحة مظلمة، مزيج من الفقر والخيبات والشعور بالغربة. ولد عام 1897 في نيو ألباني، لعائلة كانت يومًا ذات نفوذ، لكنها فقدت بريقها. والده، موري، باع شركة السكك الحديدية العائلية، وانتقلت العائلة إلى أكسفورد، حيث أحس ويليام بأنه غريب وسط تقاليد الجنوب الجامدة.
في شبابه، حاول فوكنر اكتشاف نفسه. ترك المدرسة مبكرًا، عمل نجارًا، موزع بريد، وحتى حارسًا ليليًا. كان يرتدي ملابس غريبة، يمشي حافي القدمين أحيانًا، كأنه يتحدى العالم الذي رفضه. أحب إستيل أولدهام منذ طفولته، لكنه انتظر سنوات حتى تزوجها عام 1929، بعد أن أنهكته خيبات الحب والحياة. انضم إلى سلاح الجو الكندي في الحرب العالمية الأولى، لكنه لم يرَ القتال، فعاد بقلب مثقل بالأحلام المجهضة.
ذات يوم، في منتصف العشرينيات، سافر إلى نيو أورليانز، حيث التقى الكاتب شيروود أندرسون. كانا يتجولان في شوارع الحي الفرنسي، يتحدثان عن الحياة والأدب. أندرسون، الذي أعجب بشغف فوكنر، نصحه بالكتابة الروائية. “إذا كنت تريد أن تكون كاتبًا، اكتب ما تعرف،” قال له. تلك الكلمات أشعلت شرارة في قلب فوكنر. عاد إلى أكسفورد، وتحت ضوء مصباح خافت، بدأ يكتب “راتب الجندي” عام 1926، رواية عن طيار جريح، عكست ضياع جيله. لم تلق الرواية نجاحًا كبيرًا، لكنه شعر أنه وجد صوته.
مع الوقت، صقل فوكنر أسلوبه. كتب عن الجنوب – عنصريته، مآسيه، وجماله المكسور – بأسلوب جديد، مزيج من تيار الوعي والزمن المتشابك. روايته “الصخب والعنف” عام 1929 كانت نقطة تحول، ثم تبعتها “بينما أرقد محتضرة” و”أبشلوم، أبشلوم”. رغم بؤسه الشخصي – إدمانه على الكحول، وصراعاته العائلية – كان يكتب كمن يحفر في روح الإنسان. عاش في هوليوود لسنوات، يكتب سيناريوهات لكسب العيش، لكنه ظل مخلصًا لرواياته.
في 1949، حصل على جائزة نوبل للآداب، ليس فقط لأعماله، بل لأنه أعطى الجنوب صوتًا عالميًا. وقف فوكنر، الرجل الذي عاش بائسًا، يخاطب العالم: “الماضي لم يمت، بل لم يمر حتى.” توفي عام 1962، لكن قصصه بقيت، كدليل على أن العظمة قد تولد من الألم.