ريم السباعي
“ما أجمل الانتصار” بهذه العبارة أردت أن استهل مذكراتي الشخصية، أو بتعبير أدق النقاط الفاصلة في حياتي التي أردت تدوينها اليوم، نعم! فاليوم فقط استطيع تدوين ما شئت مما مضى من حياتي، فاليوم تحقق النصر، فلقد انتصرت نفسي على نفسي وكأنها عدوها اللدود، ما أصعب أن يكون عدوك هو نفسك لأنه يعرفك جيدًا، ويعرف نقاط ضعفك فيهزمك، ولكن الانتصار الكبير يتحقق حين تغلبه.
فمنذ كنت طفلًا في العاشرة من عمري تمنيت أن يكون لدي ميول فني، فاتجهت إلى تعلم الموسيقى، ولكنني صدمت حين اكتشفت أنني لا أمتلك أذنًا موسيقية فلم أكن أجيد تمييز نغمات السلم الموسيقي، فنصحني معلمي بأن أبحث عن موهبة حقيقية بداخلي فأنميها، لم أشعر وقتئذ بأهمية تلك النصيحة ولكن ما شعرت به حيالها أنها صفعة قوية ألزمتني الفراش قرابة شهر كرهت خلالها الموسيقى وتمنيت لو استطعت تحطيم جميع الآلات الموسيقية الموجودة على وجه الأرض.
بمرور الوقت تجاوزت المحنة أو أنني اعتقدت ذلك، فلقد اتخذت قرارًا بأن لا أفكر بأي فن، واستمر كرهي للموسيقى لأنها تذكرني بفشلي، ومرت الأيام والأعوام إلى أن جاءت النقطة الفاصلة التالية، فكانت حين بلغت الرابعة عشر، فحينئذ قرأت عن لوحة الموناليزا وراسمها ليوناردو دافنشي، وعندها تولد بداخلي شعورًا بأنني باستطاعتي أن أصبح رسامًا مبدعًا مثل دافنشي.
فتلبيتا للنداء الملح بداخلي بدأت برسم الموناليزا، وكانت الصدمة الثانية حين انتهيت من الرسم فلم تكن اللوحة تمت للموناليزا بأي صلة، حتى أنني لم أكن بإمكاني تصنيفها برسم كرتوني أو حتى كاريكاتير، فهي لا يصلح لها أي تصنيف سوى عبث أطفال، وعلى الفور مزقتها حتى لا يراها أحد، ولكن أمي رأت قصاصات الورق فقدمت لي نصيحة وهي أن أتمرن كثيرًا حتى أتقن الرسم، فتسلل شيئا من الأمل إلى نفسي فقررت رسم بورتريه لأخي الصغير.
لم تكن التجربة الثانية بأفضل من الأولى ولكن في هذه المرة رآها أخي فمضى يضحك ضحكات عالية ويعلق على رسمي بتعليقات مضحكة، وهنا تملكني اليأس وكرهت الرسم كما كرهت الموسيقى من قبل، ومن جديد أمر بأزمة نفسية، ومن جديد اعتقد أنني تخطيتها وتمر الأيام.
حين بلغت السادسة عشر ذهبت في رحلة إلى المتحف بصحبة أصدقائي، ورحت أتأمل التماثيل الحجرية وكأن عيني قد تحولت إلى عدسات كاميرا ترصد أدق التفاصيل في كل تمثال، فعدت إلى البيت وبداخلي شعور بأني بإمكاني أن أصبح نحاتًا، وعلى إثره طلبت من أبي حجر كبير من البازلت، وإزميلًا، وسكينًا ومطرقة، فقال لي أبي أنني لن أستطيع نحت تمثالًا هكذا بكل سهولة ويسر، ففن النحت يحتاج إلى دراسة وتمرين.
لن أنكر أن كلام أبي قد أصابني بشئ من الإحباط ولكنني قررت المحاولة بالنحت على الخشب، وبالفعل قمت بطباعة رسم على لوح من الخشب وبدأت بنحته، ولكن سرعان ما فسد الرسم ولوح الخشب، وأعدت المحاولة ولكن في تلك المرة أفسدها التلوين، يأست من الخشب فحاولت النحت على الزجاج ولكن أثناء محاولتي الوحيدة تحطم اللوح الزجاجي وعندها عدلت عن فكرة النحت نهائيا.
تخرجت من الجامعة وشغلت وظيفة لا بأس بها، وهنا بدأت تراودني فكرة جديدة وهي أن أصير أديبًا أو شاعرًا وخاصة أن دراستي كانت في اللغة العربية، وأجريت محاولات عديدة باءت كلها بالفشل، وحينئذ تملكني يقين بأنني فاشل لن أستطيع تحقيق أي شيئا أتمناه.
مضت حياتى على منوال واحد حتى أتى يومًا ربما يراه المرء يومًا عاديًا وطالما تكرر في حياتي وهو أن ابن أخي البالغ من العمر خمسة أعوام أتى وجلس معي في غرفتي وطلب مني أن ألعب معه، فلبيت طلبه ومضينا نلعب بألعابه الطفولية إلى أن أتى بصلصال وطلب مني أن أصنع له به أشكالًا لحيوانات يحبها واضعًا أمله كله بي لأن والديه لم يتقنا صنع تلك الحيوانات، فمضيت أصنع له الأشكال وكلما أعجب بواحدة طلب مني صنع أخرى حتى انتهت قطعة الصلصال.
أنهى الصغير لعبه وغادر الغرفة تاركًا أشكال الصلصال على المنضدة، فرحت أتأملها وأتساءل كيف استطعت صنع هذه الأشكال؟! فعادت إليّ ذكرى النحت ولكن في هذه المرة قررت أن أبدأ بالدراسة وليس بالتجربة، وبالفعل التحقت بمركز لتعليم فن النحت فعلمت أنني لابد أن أتقن الرسم الدي أكرهه وفنًا أخر وهو العمارة.
بالصبر والمثابرة استطعت إتقان فن النحت، وبالطبع أتقنت الرسم الذي كرهته بل أصبحت اليوم أحبه، ووقتئذ أيقنت بأنني تخطيت الأزمات الماضية، ولم أعد أكره الموسيقى بل أستمع إليها وأنا أقوم بنحت القطع الفنية، وبالطبع لم أنجح من المرة الأولى فلقد مررت بإخفاقات ونجاحات، واليوم فاز تمثالي البرونزي المنحوت على شكل حصانًا مجنحًا في إحدى المسابقات الكبرى، والذي أطلقت عليه اسم ” قاهر اليأس” فاليوم وأنا على مقربة من الخامسة والأربعين انتصر على نفسي المحبِطة بعد أن اكتشفت موهبتي الحقيقية ونميتها وتوجتها بالنجاح.
نبذة عن الكاتبة:
ريم السباعي
أحد الكتاب الشباب لمنصة كلمتنا
حاصلة على ليسانس آداب في التاريخ من جامعة عين شمس عام 2005
صدر لها مجموعة قصصية بعنوان: رحالة في جزر العجائب
صدر لها رواية بعنوان: ويعود ليلقاها
للتواصل: