كاتب ومقال

ومضة| قطار السابعة

بقلم: أحمد سليمان

أحمد سليمان

(عندما يصبح الانتظار بلا نهاية)

جلس الرجل الستيني على مقعد في محطة القطار ينتظر قطار السابعة مساء، تلك العادة التي لم يقلع عنها منذ أربعين عاماً أن ينتظر القطار يوم الخميس من كل أسبوع، كان يعلم أن شيئاً جديداً لن يحدث، لكنه كان ينتظر كل مرة بنفس اللهفة وييأس كل مرة نفس اليأس.

كان يحمل في كل يوم خميس نفس النوع من باقات الزهور ويتركها تذبل انتظاراً للمستحيل على ذلك المقعد في المحطة، وكان في طريقه إلى المحطة يمر بالعديد من المباني التي شهدت لهوهما سوياً في سن الطفولة، بالطبع تغيرت ملامح العديد من هذه البنايات فتحولت بعض المنازل الصغيرة إلى عمارات سكنية وصارت منازل أخرى مهجورة كالأطلال.

كان يرى على تلك الأطلال خطوط رسماها سوياً، كانت بعض تلك الخطوط اسميهما وبعضها خيالات عن مستقبل لم يكونا يعلما أنه لن يأتي أبداً، ولم يكن أحد يرى تلك الخطوط سواه ربما لأن الزمان محاها وربما لأنها حُفرت على جدران قلبه وليس على جدران تلك الأطلال.

تذكر ذلك الجدار الذي لعبا عليه “استغماية”، وكانت تهرب منه بين زوايا المكان، وفي أحد المرات غابت لأكثر من ربع ساعة فشعر بالخوف، وظل ينادي حتى ظهرت في النهاية، ولم يكن يعلم أن تلك النداءات ستتكرر بعد فترة من زمان ولكن بلا إجابة إلى الأبد.

كبرا سوياً، وكان يكبرها بثلاثة أعوام، ولم تكن متفوقة في اللغة العربية على غير حاله فهو يعشق اللغة العربية فكان يساعدها على استذكار دروسها، وقد عشق البلاغة لأنه كان يأتي بأبيات شعر لشعراء سابقين تمنى لو أن الله قد وهبها لإلهامه ليقولها فيها، فيشرح الأبيات ويستفيض في الشرح، ويتذكر ذلك اليوم جيداً عندما شعر لها قصيدة شوقي “مضناك” وقال إن طيفها ربما زار شوقي عندما كتب “الحسن حلفت بيوسفه والسورة أنك مفرده.. وتمنت كل مقطعة يدها لو تبعث تشهده”، فأي حسن رآه لم يكن في عينيه يضاهي جمال محبوبته.

القصة بدأت منذ الطفولة، فقد نشأ عمرو على حب نهى ابنة خالته، حب لم ينكره أحد من المحيطين، ولم يغيره مرور بفترات مراهقة أو شباب حتى تخرج عمرو من كلية التجارة بجامعة طنطا، بينما اضطرت نهى للسفر إلى القاهرة لتحقيق رغبتها في الالتحاق بكلية الإعلام لعدم وجود كلية إعلام في المحافظة.

لم يغير سفر نهى من قصة حبها مع عمرو ولا من الوعود التي بينهما، وبالفعل قام بخطبتها قبل تخرجها بعام، وكان من المفترض أن يتم الزفاف بعد التخرج.

كان عمرو ينتظر الخميس من كل أسبوع في محطة القطار ومعه باقة من نوع الزهور الذي تفضله نهى، وكانت الساعة السابعة من مساء الخميس الموعد الذي تُرد فيه روحه إليه بعد أن يراها عائدة منهكة بعد أسبوع شاق في القاهرة، فتنسى التعب حين تراه وينسى هو مرارة افتقادها لأسبوع مضى، قبل أن يودعها في مساء السبت فتنتزع روحه منه مرة أخرى.

وفي أحد أيام خريف 1981 حضر القطار، وذهب عمرو إلى العربة التي كانت نهى تفضلها إلا أنه لم يعثر عليها، ظل يبحث في المحطة ويفتش في كل الوجوه إلا أن محاولاته في التقاط ذلك الضوء الذي ينير روحه فشلت، لم يعرف ماذا يفعل، وقرر العودة مسرعاً إلى منزله خالته للعثور على رقم هاتف المدينة الجامعية علهم يعرفون سبب تأخر نهى.

وقبل أن يصل إلى المنزل فوجئ بتجمع كبير من أفراد عائلته، أحس بدقات قلبه، شعر أن الأمر يخص نهى، خشي أن يسأل واكتفى بالتأمل حتى قطع تأمله والده.

والد عمرو: جهز نفسك يا عمرو هنسافر القاهرة في مستشفى اتصلت وبتقول إن نهى عملت حادثة وبتتعالج هناك.

سقط عمرو على الأرض، ومنعه الذهول عن السؤال، فالضبابية تسيطر على الموقف وهو لا يعلم هل يخفي عنه والده شيئا لتخفيف الصدمة أم أنها بالفعل مصابة وتتلقى العلاج، ودون سؤال أسرع إلى سيارته وركب والده وزوج خالته معه.

وصلا إلى المستشفى وعلم أن نهى قد توفيت بعد أن صدمتها سيارة مسرعة في أحد الشوارع المجاورة للجامعة.

في البداية سقط، فشل في استجماع قواه، فشل في الصراخ، فشل حتى في البكاء، بينما امتلأ المكان بصراخ أهل نهى الذين حضروا تباعاً لتسلم جثمانها بعد أن قتلتها شوارع القاهرة.

لا يعرف عمرو كيف مرت الأيام الأولى بعد الوفاة إلا أنه أصيب بذهول جعل الناس ترميه بالجنون، فقد يحضر “الخميس” الذي يقيمه أهل المتوفاة في المقابر خلال الشهر الأول من الوفاة ثم لا يعود من المقابر سوى على متجر الزهور لشراء باقة الزهور التي تحبها نهى ثم يذهب إلى المحطة وينتظر قطار السابعة وتذبل الورود ويعود يائسا إلى منزله.

ظن أهله أن تلك الحالة ربما تستمر أسبوعاً أو شهراً إلا أنها لم تنقطع أبداً.. لم تنقطع لمدة أربعين عاماً، لامه والداه في البداية وطلبوا منه أن يرضى بقضاء الله، ولكن لم يرى نفسه ساخطاً على قدر الله، رآى نفسه منتظراً.. منتظراً أن يلقاها في رحاب الله ككل شئ جميل بخلت به الحياة.

باشر عمله وواصل حياته إلا أن أي امرأة سواها لم تدخل إليها وفشلت محاولات الجميع في إقناعه بالعدول عن تصرفاته التي لم يكن يشرحها لهم، فمن الذي يصدق أنه ينتظرها كجنة عرضها السماوات والأرض، وإن كان لا يلقاها في السابعة من مساء الخميس فيكفيه الانتظار.. انتظار سينتهي يوماً ما بلقاء في رحاب لا يضيق.

إننا ندفن في حياتنا الدنيا بعض من أجزائنا حتى تحتضننا الأرض كلنا فتجمع ما تشتت منا عبر السنين، هكذا فكر وإن لن يفهم أحد ما يقصد.

اليوم يمر أربعون عاماً على ذلك اليوم الحزين، ولم يتغير أي شئ في الأمر سوى كتاب أمسك به عمرو ليقرأ قصيدة لفاروق جويدة..

ورجعت وحدي في الطريق
اليأس فوق مقاعد الأحزان
يدعوني إلى اللحن الحزين
و ذهبت أنت و عشت وحدي.. كالسجين
هذي سنين العمر ضاعت
و انتهى حلم السنين
قد قلت:
سوف أعود يوما عندما يأتي الربيع
و أتي الربيع و بعده كم جاء للدنيا.. ربيع
و الليل يمضي.. و النهار
في كل يوم أبعث الآمال في قلبي
فأنتظر القطار..
الناس عادت.. و الربيع أتى
و ذاق القلب يأس الانتظار
أترى نسيت حبيبتي؟
أم أن تذكرة القطار تمزقت
و طويت فيها.. قصتي؟
يا ليتني قبل الرحيل تركت عندك ساعتي
فلقد ذهبت حبيبتي
و نسيت.. ميعاد القطار..!

 

نبذة عن الكاتب

أحمد سليمان

أحد الكتاب الشباب لمنصة كلمتنا

محرر صحفي تخرج في كلية الإعلام جامعة القاهرة

صدرت له 4 كتب
منهم ديوانا شعر باللغة العربية “بلاء عينيك أطلال”
مجموعتين قصصيتين “مواسم الموت وعيادة فقدان الذاكرة”

للتواصل :

[email protected]

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى