في أحد أيام الإجازة دعاني صديق لي لزيارته، وطلب مني أن أجلس معه طوال اليوم، فقبلت دعوته، وفي الطريق إليه إلتقيت بصديقنا الثالث، فأخبرني بأنه تلقى دعوة هو أيضا لقضاء اليوم بأكمله معه، فرافقني ما تبقى من الطريق.
وصلنا إلى بيت صديقنا صاحب الدعوة، كان في انتظارنا، فرحب بنا ودعانا للدخول، إن هذه هي المرة الأولى التي أزوره في بيته، وعلمت من صديقي أنه هو أيضا يزوره للمرة الأولى، كان البيت جميل ومرتب، متناسق الألوان، والأثاث ذو ذوق رفيع، الجدران تزينها لوحات فنية جميلة، والتحف الفنية تزين أركانه عدا ركن بعيد عن الأنظار به دراجة صغيرة، وبعض الألعاب والدمى الملقاة على الأرض.
قدم لنا صديقنا صاحب البيت فطائر ساخنة محشوة بالجبن، وأكوابا من عصير البرتقال، ثم قال: إن زوجتي في زيارة لأهلها واصطحبت معها الأطفال، فوجدت أنها فرصة لنلتقي ونستعيد الذكريات الجميلة، فقلت له: أجل! خاصة وأننا لم نلتق منذ زمن بعيد، وأكد صديقي على كلامي.
وبينما نحن جالسون لتناول الطعام، سأل صديقي موجها سؤاله لصاحب البيت: هل أنت من أعد هذه الفطائر؟ فقال له: لا! بل زوجتي هي من أعدتها مساء أمس حين أخبرتها بدعوتكما اليوم، ثم ضحك وقال: مازلت لا أجيد الطهو، ولا أجيد صنع كوبا من العصير، فحين أخبرتني زوجتي بأن علي تسخين الفطائر أمطرتها بوابل من الأسئلة لكي لا أحرقها، فقلت له: سلمت يداها ويداك، بينما قال صديقي: لذيذة ولكنها جفت بعض الشيء بسبب إعادة التسخين، والبرتقال كان عليك تقليبه جيدا قبل توزيعه في الأكواب، فابتسم بخجل وقال: لم أكن أعلم بأن هناك شيء لابد من فعله في العصير، فابتسمت محاولا إزالة الحرج عنه، فقلت: ولماذا تسأل؟! كل شيء على ما يرام، كما أن زوجتك طاهية ماهرة، فلماذا تسأل عن تفاصيل إعداد الطعام؟! فابتسم وبدى على وجهه الارتياح ثم قال: إن إعداد الطعام هو أكثر شيء أكرهه في حياتي، ولا أحب أن أتعلمه أبدا، فقال صديقي: ولكن إذا تعلمته سيفيدك كثيرا، تخيل أن زوجتك أصيبت بمرض في أحد الأيام، من سيعد الطعام للأولاد؟! لم أدعه يرد وقلت ممازحا: لا داعي لتناول الطعام في ذلك اليوم، ثم غيرت دفة الحديث فأتبعت كلامي بتعليق أبديت به إعجابي بديكور البيت، فقال صاحب البيت: إن كل شيء بالبيت من ديكور وألوان هو ذوق زوجتي، لقد أعجبني ذوقها في بداية حياتنا، فتركت لها حرية الاختيار، فكررت إعجابي بذلك الذوق الرفيع.
عندئذ راح صديقي ينظر هنا وهناك، ينظر إلى كل شيء بالبيت بعين فاحصة ثم قال: تنسيق رائع ولكن إذا وضعت هذه الزهرية فوق هذه المنضدة سوف تكون أفضل، وكذلك هذه اللوحة إذا بدلت بتلك سوف تعطي تناسقا جذابا مع هذه الساعة، وما رأيك في الإضاءة الصفراء؟ أليست أفضل من هذه البيضاء الباهتة؟ فقلت: إن الإضاءة البيضاء في رأيي تعطي راحة أكثر من غيرها، ثم انتبهت لقولي، لقد جاريت صديقي في تعليقاته السخيفة، لابد أن حديثنا قد أزعج صديقنا، فقلت محاولا إصلاح الموقف: إن لكل إنسان رؤيته الخاصة، المهم أن يعيش في راحة وسعادة، وهل يجد المرء ذلك في مكان أفضل من بيته؟! وبذلك استطعت إنهاء ذلك الحديث السخيف، ورحنا نتذكر الأيام الماضية.
أتى موعد الغداء، استأذن صديقنا ليحضره فرافقته وساعدته، جلسنا على مائدة الطعام، فكان الركن الخاص بألعاب الأطفال واضحا أمامنا، فعلق صديقي قائلا: إن هذه الألعاب المبعثرة تشوه جمال البيت، فقال صديقنا: إن هذا هو أفضل حال لها، لأن الأطفال لا تدع الألعاب منذ الاستيقاظ وحتى النوم، وكلما طلبت من زوجتي إزالتها من هنا، قالت: دع الأطفال يلعبون ويمرحون، فإن إزالة ألعابهم من المكان المفضل لهم يزعجهم كثيرا، فرضيت بالأمر الواقع، فقال صديقي: ولكن … فقاطعته قائلا: هذا حال كل الأطفال، وكل بيت به أطفال، المهم هو سعادتهم، فأكد كلامي.
بدأنا في تناول الطعام، نظر صديقي إلى الطعام الذي كان عبارة عن أرز، وبطاطس ودجاج وقال: عذرا إنني لا أفضل الدجاج، سأكتفي بالأرز والبطاطس فقط، إن اللحم مذاقه أفضل من الدجاج بجانب البطاطس، لم أجد أي تعليق على كلامه، بينما قال صديقنا: أخبرني بما تحب لأعده لك في المرة القادمة، وبدى على وجهه الندم على دعوته لنا.
وفي المساء شكرنا صديقنا على دعوته واستأذناه في الرحيل، اعتذرت له على أي إزعاج سببناه له، فابتسم وأكد لي أنه كان مسرورا، غادرنا بيت صديقنا، وعاد كل منا إلى بيته، ذلك المستقر الذي أعددناه لأنفسنا بعناية وكما يروق لنا، لم نأخذ معنا شيئا من بيته ونحن مغادرون، وكذلك لم نزد في بيته شيئا، ولكننا تركنا أثرا، فلقد تركت أثرا طيبا في نفس صديقي، بينما ترك الآخر أثرا سيئا لديه.
رحت أفكر في أحداث ذلك اليوم، أقوالي، وأفعالي، وكذلك أقوال، وأفعال صديقي، فوجدت أن ذلك اليوم أشبه بحالنا في هذه الدنيا، يأتيها الإنسان زائرا في الصباح، ثم يغادر عند المساء، لا يأخذ شيئا، ولا يترك بها إلا الأثر، وعليه الاختيار إما أن يترك أثرا طيبا وإما أثرا خبيثا.