إبداعات كلمتنا| “نزوة نوفل”
ضج رأس نوفل من ضجيج ضرب فتيح صبيه الصغير المتحمس طوال الوقت بلا سبب، ضربات الشاكوش المتلاحقة فوق خشب القبابيب أصابته برغبة عارمة في الفرار من الدكان، عشرون عامًا وهو صرماتي الحي، يملك دكان بمنتصف الحارة بجوار مدخل المسجد الكبير..
اعتادت أذنيه على صوت الشاكوش فوق القباقيب،
حتى رضخ بعد سنوات من الرفض ووافق على عمل فتيح الصبي الصغير معه في الدكان، لم يملك الرفض أمام بكاء وتوسلات الست أم شوقي وهى تُلح عليه في تعليم فتيح أصغر أبناءها الصنعة بعد موت زوجها ودخول شوقي الجهادية وإختفاءه ولم يتبقى لها غير بناتها ورجب الإبن الأوسط المعتوه -مجذوب الحارة- وفتيح الأكثرهم حبًا لها ورغبة في العمل لمساعدتها في تحمل أعباء الحياة، بيع الخضار وحده لا يضمن لهم توفر الطعام بشكل يومي..
لم يزعج نوفل صوت الشاكوش من قبل طوال سنوات عمله في صناعة القبايب وتصليح النعال، صانع الضجة لا ينزعج منها، فقط بعد أن تعلم فتيح النبيه الصنعة وصار يعمل بدلًا منه، بدأ يعرف مدى ازعاج صوت الشاكوش..
في البداية أشفق على جيرانه بعد أن انضم لهم في صفوف المستائين المتألمين من جيرة الصرماتي، وبعد ذلك تحول لأكثر تألمًا وصار لا يطيق الجلوس لوقت طويل وسماع صوت شاكوش فتيح المتحمس، الجلوس على المقهى وتدخين الجوزة ومسامرة المعلم دسوقي العجوز الضاحك ذو الساق المبتورة، أفضل بكثير من شاكوش فتيح..
دسوقي لا يمل أحد من مجالسته، عجوز ابن نكتة وذهنه دائم الحضور رغم تخطيه السبعون من عمره، حكاويه لا تنتهي ولا يسمع أحد دون أن يقهقه بصوت مرتفع، حتى حكاويه عن معارك الفتوات المشهورة، يجعلك تسمعها وتضحك وتنسى أنك تسمع قصص سفك دماء وقطع رؤوس ونحر عناق..
رجل لا يأبه للدنيا ولا يراها غير مزحة كبيرة وأن كل البشر مجرد مهرجين ملطخة وجوههم بالبوية كبهلونات المولد،حتى حادث بتر ساقه، يقصه وهو لا يتوقف عن الضحك والمزاح وكيف أن أسطى حنطور مثله،يفقد ساقه بكل سهولة بعد أن علق بين تروس عجل عربته كأنه سيدة ريفية لم تركب حنطور من قبل، فقط يصيح وهو يضحك “ما يقع إلا الشاطر”..
نوفل يتمتع بسماع قصص دسوقي حتى عند نسيانه وسرد إحداهم للمرة الثانية أو حتى العاشرة، رؤية تراقص فمه وأسنانه المكسورة وهو يتكلم أو يضحك، كفيلة بإضحاك نوفل ونسيان ضجيج شاكوش فتيح المتحمس، حارتهم هادئة طوال الوقت، الا عند نشوب مشاجرة بين رجال المعلم فرجاني فتوة الحارة مع أحد الباعة أو الغرباء تعساء الحظ ممن ساقهم القدر للمجئ للحارة لأي سببًا كان..
كوب حلبة حصى على حساب نوفل ويصبح دسوقي ملك جلسته ولا يتوقف عن الحكاوي الا عند رغبته في مشروب جديد أو فطيرة ساخنة وقطعة جبن من يد مرزوقة بائعة الفطير والجبن، صوت جلبة وعفار يملأ الحارة وعشرات الصغار بملابسه المهترئة وتظهر من خلفهم زفة مهولة محاطة بنبابيت رجال المعلم فرجاني..
زفة بوضح النهار، أمر غريب جعل نوفل ينهض ويرفع كرشه العملاق ويقف أمام المقهى يسأل عن سر الزفة، رائحة بخور وصوت زغاريد وأحدهم يهمس له بخوف الا يسمعه أحد رجال المعلم فرجاني، أن الزفة للمعلمة حلاوتهم العالمة، المعلم فرجاني سمح لها بالسكن بالحارة ببيت رضا الحوتي مساعده وذراعه الأيمن..
إبتلع نوفل ريقه بهلع وهو يفهم أن العوالم بطريقم ليصبحوا جيرانه الجدد ويسكنوا فوق دكانه، الزفة تقترب ورائحة البخور تملأ أنفه ويلمح المعلمة حلاوتهم وحولها مجموعة من العوالم بدون بيشة وشفاههم مزينة باللون الأحمر وأجسادهم تتمايل بدون خشى أو خوف..
شعر بحجم المصيبة وعاد بوجه عابث يجلس بجوار دسوقي المتسائل عن سبب الجلبة والزغاريد ورائحة البخور، أخبره نوفل بالخبر وهو عابث الوجه متجهم الملامح، كما يفعل دائمًا ظل دسوقي يضحك بلا توقف وهو يسخر من حالة نوفل ويجد ساحة جديدة يذكر فيها حكاوي العوالم وسر ارتباطهم بالفتوات..
لكل فتوة بادرونة يجعل من حمايته لها مظهر من مظاهر التباهي بقوته وسلطته ونفوذه، لكل فتوة.. عالمة تصنع له ليالي المزاج وعند الحاجة يُطلقها هى وحريمها على من يريد من فتوات أخرين أو أصحاب المكانة، العالمة هى سلاح الفتوات عند عجزهم عن استخدام النبوت..
مخاوف نوفل تحدث أسرع مما توقع، أصبحت جلسة رجال المعلم فرجاني بجوار باب دكانه يمنون أنفسهم بحريم حلاوتهم، كلما أزعجهم شاكوش فتيح، صاحوا بوجه نوفل وهم يضربون الأرض بالنبابيت ويأمروه بالتوقف عن العمل وعدم ازعاجهم، صوت شاكوش فتيح يحرم أذانهم من صوت ضحكات حريم حلاوتهم المجلجلة..
أصبح نوفل طوال الوقت يترك الدكان ويذهب للمقهى ليس هربًا من شاكوش فتيح، ولكن هربًا من صوت النبابيت وأوامرها الصارمة، لم تشفع حكاوي دسوقي في عدل مزاجه أو تخفيف حزنه على وقف الحال، أصبح صوت دسوقي كصوت شاكوش فتيح، يزعجه ويُصدّع رأسه وأصبح لأول مرة يتجنب مجالسته ويجلس وحيدًا منزويًا بأبعد مكان في المقهى..
فتيح يهرول ناحيته ويخبره أن إمرأة من حريم حلاوتهم تسأل عنه وطلب منه أحد رجال المعلم فرجاني سرعة احضاره، كاد يسقط من فوق مقعده وهو يحاول النهوض وتعترض الطاولة كرشه الضخم وهو يصيح بهلع،
– استر يا رب
فتاة برداء قصير وبدون بيشة وتقف كالنخلة المعوجة الآيلة للسقوط تقف بمنتصف دكانه وهى تمضغ علكة بطريقة مستفزة، فور رؤيته طلبت منه الصعود معها لمقابلة البادرونة حلاوتهم، قبل أن يتفوه بحرف كان يرى المطلوب منه من ملامح قاسم أحد رجال المعلم فرجاني الواقف بجسد مشدود متكأ على نبوته في شموخ لا يتناسب مع رفيقته ذات الجسد المائل وهى تسند بيدها على خصرها وتلوك العلكة بفمها بصوت مسموع..
على الفور هرول بشكل مضحك وكرشه يتراقص أمامه منافسًا في اهتزازه خصر الفتاة مرسولة المعلمة، حلاوتهم تجلس فوق أريكة مرتفعة وأحد ساقيها مدلي والأخرى تحت جسدها المفعم بأنوثة لو تم توزيعها على كل حريم الحارة، لأصبحت الحارة ملاذ كل عرسان وذكور المحروسة..
بيدها المحلاة بالذهب حتى كوعها تمسك بلي الجوزة وتنفس دخان المعسل ويختلط بدخان البخور ويصنعوا تلك الرائحة الصانعة للدوار والخُدر، وقف أمامها يلهث وهى تنظر له بلا رد فعل مفهوم وكلما سحبت نفس من الجوزة، يتحرك صدرها ومع زفير المعسل يعود للإرتفاع والإنتفاخ ومن شدة بياض بشرتها يشعر أن صدرها يعكس أشعة الشمس المتسللة من المشربية..
بعد أن فحصته وتأكدت أنها سحرته بجمالها وأنوثتها صاحت بصوت مرتفع لا يخلو من الدلال وكأنه خط متعرج بين هبوط وصعود،
– بت يا لواحظ.. هاتي الصنادل
تقدمت تجاههم فتاة لا تختلف عن سابقتها وهى تحمل طشت به عدة صنادل حريمي وتحمله فوق خصرها المعوج، كل حريم حلاوتهم لا يعرفون شئ غير استخدام خصورهم، وضعت الطشت أمامه وحلاوتهم تحدثه بصوتها المتعرج وتطلب منه تصليح الصنادل وإعادتها أفضل من السابق..
نوفل وهو يصارع رغبته في التحديق في حلاوتهم وحريمها، يحمل الطشت ويخبرها بحماس اضعاف حماس شاكوش فتيح، أنه سيفعل افضل ما عنده، عاد للدكان والطشت فوق كتفه وهو يشعر بإنتصار مؤقت على اوامر النبابيت..
الآن يمكنه السماح لشاكوش فتيح في الصياح والصخب والصجيج ولا يمكن لأحد الاعتراض وهو يُصلح أحذية المعلمة بذات نفسها، بهجة بالغة لم يعرفها من قبل من سماع طرق شاكوش فتيح، صوت الشاكوش هذه المرة يصيبه بالبهجة وهو يرى ملامح الاستياء والانزعاج على وجه قاسم ورفيقه..
عاد للمقهى وبحث عن دسوقي بعد تجنبه أيام،
يسأله بشغف كيف يمكنه الوصول لحريم حلاوتهم،
بلا شك لا يحلم بالسؤال عن حلاوتهم نفسها، هى مثل الوقف في أخر حارتهم، لا سلطة عليه غير ناظر المحطة وحده..
حلاوتهم هى الوقف الخاص بالمعلم فرجاني وحده، دسوقي يضحك ويبالغ في الضحك وهو يفهم أن حريم حلاوتهم أصابوا قلب نوفل، كتم نوفل غضبه ورغبته في ضرب فك دسوقي بقبضة يده وهو غارق في رغبة عارمة في معرفة سر انحناء خصور حريم حلاوتهم..
دسوقي يحاول تخويفه من بطش المعلم فرجاني ونبابيت رجاله، لكن رغبة نوفل أصبحت مُلحة وتحولت لنزوة اجتاحت فؤاده وأشعلت رغبته في معرفة سر الخُصور المعوجة..
شرد دسوقي وهو يفكر في حالة دسوقي ويقلبها برأسه ثم تحدث له لأول مرة دون ضحك أو مزاح وهو يقترب بفمه من أذنه ويهمس بصوت مرتعب،
– لما ترجع الصنادل قول للمعلمة طالبين القُرب يا بادرونة
شخص نوفل ببصره وهو يتذكر خصر لواحظ المتمايل وهرول مرة أخرى للدكان يساعد فتيح لسرعة انهاء التصليح، قبل دخول الليل بدقائق حمل الطشت فوق كتفه وصعد بعد سماح قاسم له وهو يراجع جملة دسوقي برأسه، وضع الطشت أمام المعلمة الجالسة كما كانت في المرة الأولى كأنها آلة لا تغير عملها ولا تتوقف عن تدخين الجوزة، قدم لها الصنادل بتباهي وفخر وهى تفحصتها بسعادة واعجاب من دقة العمل..
فور رؤية ابتسامتها ألقى عليها جملة دسوقي وهو مبتسم ببلاهة، نظرت نحوه بإبتسامة غير مفهومة ثم ضحكت بصوت مرتفع مجلجل واشارت له برأسه نحو أحد الغرف،
– وماله يا اخويا.. ادخل هناك
النزوة على وشك التحقق، غرفة فارغة لا يوجد بها غير فراش نحاسي كبير وعريض ومنضدة صغيرة عليها مبخرة مشتعلة، لم يعرف ماذا عليه أن يفعل، فقط ظل واقفًا بمنتصف الغرفة يُمني نفسه بدخول لواحظ وتحقيق نزوته المولدة بداخله فقط قبل بضعة ساعات..
طال الوقت وشعر بالتوتر حتى انفتح الباب ووجد المعلم فرجاني أمامه بضخامة جسده وشنبه الأسود الحالك تحت انفه كأنه غراب فاردًا جناحيه، ارتعد وكاد يفقد وعيه والمعلم يقترب منه ويمسكه من كتفه ويغرس أصابعه القاسية بلحمه ويصيح بصوت أشد قسوة وازعاج من شاكوش فتيح،
– بتعمل ايه هنا يا جدع أنت؟!
تلعثم نوفل وظل يبحث لثوان عن لسانه بداخل فمه، ثم أفلت من قبضة المعلم وهرول نحو المبخرة وظل ينفث فيها بما وجده من بقايا اكسجين بداخل صدره،
– ابدًا والله يا معلم ده أنا لقيت نفسي فاضي شوية قلت أطلع انفخ في البخور.
-تمت-