كاتب ومقال

«هكذا احتمل العمر نحيبًا وعذابًا»

في زمان كانت الشوارع فيه تحفظ خطى العابرين كأنها دفتر حضور، وكانت المقاهي تنصت لهمسات الحيرة قبل زفير السجائر، وجد جيل لم يلتقطه الضوء ولم ينصفه المؤرخون. جيل مشى فوق جمر التحولات بلا شاهد، وحمل على كتفه وطنًا يتشقلب بين زمنين. كأننا جماعة خرجت من سينما منتصف الليل، فلم يلحظ أحد وجودها. هكذا بدأنا.. وهكذا تركنا معلقين بين روايتين لا تخصنا.

أين أنت منّا يا كاتب التاريخ؟!
هل ضيعك الدليل كما ضيع الأراجوز العمدة في الليلة الكبيرة؟! أم كنت مشغولًا بتسوية خرائط المآسي، فمررت فوق الثمانينات كما تمر الريح على ورقة مهملة؟! جيل كنت تضعه في الهامش كلما ضاقت الصفحة، وتكتفي بأن ترشده بعبارة: «ظروف قاسية.. وخلاص»

عزيزي كاتب التاريخ…
‎                          تحيّة طيبة وبعد؛؛؛
أنا ذلك العابر الذي نسي عمره في جيب معطف قديم، وضاع منه عداد السنين كما تضيع المفاتيح في بيت قديم موارب الأبواب. لست وحدك يا صاحبي من تسقط منه الأشياء سهوًا أو عمدًا.. فأنا أيضًا أتعثر بخطواتي، أتهجى ملامحي، وأمارس مهنتي كأنني تلميذ يصارع في مدرسة شعبية.
‎ جئتك أشكو منك إليك، وأجعلك الخصم والحَكم سويًا…
تخيل أن تولد في حقبة تستقبلك منذ يومك الأول برسالة مختومة بالشمع الأحمر: «مبروك… لقد حطت بك الأقدار في جيل واقع بين ضياع الأمس وضغط الغد، فاستمتع بما قُسِم لك من معاناة.»فأصبحنا الجيل العالق في منتصف الطريق…
جيل وصفه أهل الاختصاص بـ«الجيل الضحية»؛ عالق في مثلث برمودا الزمني، لا يصنف مع أصحاب الامتيازات الرقمية، ولا ينسب إلى أصحاب الامتيازات الاقتصادية الذين دلّلهم السبعينات وما قبلها.
نشأنا في بيوت كان فيها «الأنالوج» دستورًا منزليًا.. تلفزيون بثلاث قنوات، هاتف أرضي يحتاج إلى مزاج الخط، وكمبيوتر يقف في الركن مثل خزانة خشب قديمة تستعمله الأسرة كلها ويحتاج ساعة ليفتح أبوابه.
نحن أبناء حقبة عبرت بنا من الكاسيت إلى السي دي، ومنه إلى الـ إم بي ثري ثم الستريمنغ من دون أن نلتقط أنفاسنا لنستمتع بأي محطة من تلك المحطات. عشنا لذة الذكريات الحقيقية؛ تلك التي لا تختصرها صورة لامعة على «إنستغرام». ركضنا في الشوارع بأحذية مثقوبة، أكلنا الساندويتشات الملفوفة داخل أكياس بلاستيكية، وتلهينا ببطاقات الكارتون المسروقة من علب الشيبسي، وركضنا خلف «الجادون» المدفون غالبًا تحت غطاء زجاجة بيبسي لدى طفل مدلّل.
كان علينا الاستيقاظ قبل الشمس لنلحق بـ«غرين دايزر»، ثم نقضي 24 ساعة في انتظار مصير «دوقفليد«. كنا نتواصل مع خالتنا وعماتنا في القري والمحافظات بخطط تشبه هندسة الاتصالات الدولية.
لعبنا «الاستغماية» بدل ألعاب الفيديو، حفظنا أرقام أصدقائنا عن ظهر قلب، وكتبنا واجباتنا بيد ترتجف من البرد لأن المدفأة كانت رفاهية لا يحلم بها إلا أصحاب الحظوة.
ومع ذلك.. لم نملك نعمة الطفولة الممتدة. خُطفت منّا المراهقة تحت ثِقل الحياة، وسُرقت منّا سنوات الشباب مع سقوط سقف الاقتصاد فوق رؤوسنا، ثم وجدنا أنفسنا بين ليلة وضحاها في سباق مع الزمن، نلهث لمجرد البقاء صالحين للاستعمال.
نعم.. نحن أبناء الثمانينات، تلك الحقبة التي لم تستطع أن تكون ذهبية ، ولم تعطَ حتى  فرصة  لتكون خشبية، عشنا كل شئ بنسخته المؤقتة، المنسية، الممسوحة من الارشيف كأننا خطأ  مطبعي في كتاب التاريخ .

أما الحب..
فكان رسالة ورقية تُخبَّأ في درج خشب، أو نظرة خاطفة في شارع يتقاطع مع القدر. لم يكن هناك »إنستغرام« نراقب منه غياب الأحبة، بل كنا نعتمد على الأقدار… أو على لسان الجيران

بين المطرقة والسندان…

حين دق موسم الحصاد، وجدنا أنفسنا محشورين في تلك الرقعة الضيقة بين مطرقة الطموح وسندان الواقع المكفهر. لم ننل نعيم الرفاهية الذي رافق جيل التسعينات والألفينات، ولا أدركنا دفء الاستقرار الذي تنعم به آباؤنا في السبعينات. نحن جيل قُدّر له أن يكون عصاميًا بالفطرة، مستقلاً رغم أنفه، طموحًا رغم المعاناة، ومطلوبًا منه أن يبتسم ابتسامة «مضغوطة» كي لا يُتهم بأنه صاحب دراما زائدة عن الحد!
تخرجنا من الجامعات فوجدنا العالم قد انقلب على وجهه دون أن يلوح لنا بإنذار. الاقتصاد تهاوى مثل بناية قديمة تصدعت أعمدتها، والوظائف تبخرت، والزمن تحول إلى سباق سريع لا يفسح مكانًا لمن يتأخر خطوة واحدة.
هجم علينا العالم الرقمي كضيف لم ندعُه، فتعاملنا معه كما يتعامل الجدّ الحائر مع تطبيق الـ «واتساب»!!
نحن الجيل الذي وُعد بالرخاء، ثم وجد نفسه واقفًا في طوابير البطالة، يعد أنفاسه ويبحث عن باب مفتوح. جيل تربى على الكتب التي بشّرته بأن الشهادة الجامعية هي مفتاح المستقبل، ثم اكتشف يوم التخرّج أن المفتاح قد انزلق إلى قاع أحد المحيطات الثلاثة، ولا أحد ينوي الغوص للبحث عنه.

أنظر إلينا الآن..
ونحن نلامس عتبة منتصف العمر، نقف مثل مسافرين ضلوا الطريق، نجر خلفنا حنينًا غريبًا لزمن فات.
ستجدنا في مبارزة يومية مع الحياة نتنافس معها على شبر أمان. ما زلنا نلهث خلف فرصة عمل تليق بما راكمناه من تجارب، نحاول تربية أولادنا بروح شبابية بينما أصوات المفاصل تشتكي، والصيدليات سجلت أرقامنا كزبائن دائمين بسبب ثقل الأيام وهمومها.
نحن الجيل الذي لم يسمح له بأن يكون طفلًا كامل البراءة، ولا مراهقًا كامل الفوضى، ولا شابًا كامل الزهو. جيل أُجبر على لعب كل الأدوار دفعة واحدة، ليجد نفسه اليوم شخصًا يحمل حقيبة ظهر محشوة بالأعباء، ويتساءل بمرارة خفيفة الظل: «هو أنا هحارب لوحدي ولا إيه؟»
نحن الذين لم يسمح لنا بالتعلق بعادة واحدة، فقد كبرنا على مشهد  »العالم يتغير« ووجدنا أنفسنا فجأة في سباق مع الزمن نحاول أن نبقى على قيد الصلاحية في عالم قرر أن يضغط على زر  التحديث في غفلة من أمرنا.
جيل الثمانينات لم يكن مظلومًا فحسب، بل كان جيلًا علقت عليه أحلام كثيرة، ولم تسلم له الأدوات لتحقيقها. نحن الحلقة المفقودة بين زمن الآلة الكاتبة وزمن الذكاء الاصطناعي، بين الرسالة الورقية و«إيموجي الوجه الحزين»، بين براءة الطفولة وسراب المستقبل

وربما، في لحظة ما، سنجد مكاننا أخيرًا في كتب التاريخ، لا كضحايا عصور متقلبة، بل كأبطال نجوا من كل شيء.. واستمروا رغم كل شيء.

هذا أنا يا عزيزي كاتب التاريخ…
فإن أفقت يومًا من سكرتك، وخرجت من كهفك بعد سباتٍ طال أكثر مما تحتمله أعمار البشر، فإني أرجوك – بكل الود القديم – أن ترسل لي بطاقة تعارف واحدة، فقط واحدة، على غرار تلك البطاقات التي كان يتبادلها وجهاء الحارات وأعيان الأزقة. بطاقة أعرف بها ملامحك، لأتمكن من لقائك يومًا ما.. ساعة ما..شهرًا ما.. أو حتى سنة كاملة إن لزم الأمر. وإن ضاق عليك وقتك الثمين، فليكن موعدنا يوم القيامة صباحًا؛ حتى لا أعطلك عن متابعة مهامك الجسيمة في إعادة ترتيب دفاتر الأمم وكتابة شهادات العصور.

وختامًا…
لك مني سلام يليق بقلب ما زال ينتظر أن يلتفت التاريخ نحوه ولو مرة، ولو بخطأ مطبعي صغير.

 

بقلم

سمر مرسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى