إبداعات كلمتنا| “الغريق”
عندما تصل الأحلام للنهايات يتمدد الكون أمامك.. ترى شبح غريق يجتمع أناس لمشاهدته، يزعق فوق النخلة غربان سود كبشير سوء ونذير شؤم.. تصرخ أوجاعك، وتتوه الكلمات..تتساءل هل عرف الموت فقد بنيه أو ثكل أخيه؟!
هل جرب يومًا أن يعتصر الألم فلذة كبده ويخطفها؛ لتكون الآهات ركامًا، ويصير حطامًا؟!
دوامةُ نهرٍ جانحةٍ دوارةٍ تدور بقوةٍ؛ لتطيح بأحلام صباه، وتطويها طيًّا كطي السجل للكتب؛ فيلاقي حتفه، وتأتيه مَنيتُهُ تهرولُ تتسع دوائرها، وتنتشر
وتتوغل في عمق النهر، وتصغر فجأةً كأنفاسٍ يلفظها أو أمواجٍ عاتيةٍ يصارعها؛ فتصرعه أو يصرعها.
يحاول أن يتشبَّثَ بحياتِهِ لكن هيهات..هيهات فقد خاصمتِ الدنيا غدَهُ..جافته..حانت ساعته فما عاد يحفلُ بفاكهةِ الأرضِ، وعنبِ الحقل ذهب؛ ليحرثَ في النَّهرِ.
يبحث عن كسرةِ خبزٍ يابسةٍ يأكلها؛ لتسد الرَّمق أو رشفةِ ماءٍ أو نفسٍ يتنفسه فلا يجد إلا الصمتَ.
يلفظ آخر أنفاسه.. يقبض كلتا يديه يحركهما.. يحملقُ في المدى المشرئبِ بعينين جاحظتين تزهقُ روحه؛ وتخورُ قواه..تحمرُّ الدنيا في لحظات نهايته، وتسوَدُّ، تفشلُ كلُّ محاولاتِ إغاثتِهِ.
نمدُّ له القلب كطوقِ نجاةٍ وجسرِ حياةٍ فلا يدركنا ولا ندركه يمضي لهفانًا.. نصرخ هل من منقذ ٍ؟! تباغتنا الكاميرات ثوثِْقُ، وتصوِّرُ آخر نظراته وتسجل آخر حركاته، وتمجدُّ حزن رفيقه صرخات عذابه بحثًا عنه عمَّن ينقذه من أحضان الموت.. عمَّن يطلقه من بين براثنه، ومخالبه الحادة كأنياب الذئب العاوي الجاهز للفتك.
حين استعدى عليه فنشب أظافره بالصدر، فساخ القلب، وهوى تحت مياه النهر؛ ليحتضن صخوره، ويغوص في لججه، وينسحق في هوة غدره السحيقة الساحقة يعانقه القهر.
يهبط يهبط يهبط يهبط يكبل قدميه الموت..تتعالى الصرخات الثكلى قرب الشاطئ: غريق.. غريق.. غريق.. يتسمر بالشط صديق.. تخرس ألسنة زلقة من هول الصدمة، وذهول مفاجأةٍ مُرّةٍ.. يفقد خِلٌّ فيها خليله، وحبيبٌ ينتزع الموت الماكر أمام ناظريه صديقه.
تنداح الأحلام، وأيام العمر تُولِّي، وتفرُّ، وتهرب كمياهٍ فرٍَت من غربال..كعصافير النيل حين يفاجئها المطر والريح العاصف يفزعها كوريقةٍ يخطفها خريفٌ ويباغتها.. تتشتت ذكرياتٌ حلوةٌ.. تترنح ذاكرة الشوق
هنا لعبنا.. هنا ضحكنا.. هنا سرنا.. هنا تسامرنا..هنا أكلنا.. هنا شربنا.. هنا غاب الباسم وعانقه الموت.. هنا انطفأت بسمتنا.. هنا نزل الحزن بساحتنا..زهرة دفلى واقتطفت.. ساخت أرضي تحت الأرجل، ماجت.. هاجت أمواجُ الغدرِ؛ لتعصفََ بصديقي الباسمِ صار حنينُهُ للنِّيلِ هو القاتلُ.. هو الذئبُ الفاتكُ.
قالت أمي: لا تقربوا النَّهرَ الخالد فخلوده من أرواحِ ضحاياه حين يشيخُ يجدِّدُ أنسجته بدماء شباب متوقد متوهج يصبغ شيبته بسواد الموتى.. النهر الهادر في كل الأعوام يأخذ للعمق عريسًا تلو عريسٍ يحتضنه بالموج الغادر كطوفانٍ قاهرٍ.. ينهي أحلامه، ويبدد آماله.. يضفِّر شعر صباه ويمشطه ويطويه ويلقي أفراحه ومغانيه في مهاوي الرَّدى ويستلُّ معانيه ويهد الأركان.
يحطمُ كل أمانيه -حين نظرت إليه سمعته يضحكُ ويقهقه.. ويزمجِرُ عن أنيابه.. يومَ الزِّينةِ قد فاتَ وولَّى، لكني لم أظفرْ بعروس كهاميسَ، لم أحظ بفتاي حابي.. سأبتلعُ القادمَ منكم، ولو قدمتم لي قرابينَ من بُرٍ أو تِبْرٍ أو دُرٍّ.. سأسرقُ بهجتكم.. سأخطفُ منكم ولدًا أسمرَ..سألاحقكم بالْحُزْنِ.. سأوَافِيكُم بِالْأَخْبَارِ عن الْغَرْقَى.. ستجدِّفُون لإخراجِ الجثةِ.. تنتظرون الجثمانَ المسجي ليطفو.. سيَتَّهِمُ بعضُكُم بعضًا جزافًا كذبًا زورًا بهتانًا بأنَّ: القاتلَ محضُ صديقٍ.
أيكونُ الصَّاحِبُ سببًا في موتِ رَفِيقِهِ؟!
لو كانَ في العُمُرِ بقيةٌ سأحدثكم: إني كنتُ أتوقُ لِطَمي النيل.. أهفو أن ألمسَ بيديَّ الْقَاعَ.. أن أشربَ ماءً عذبًا حتَّى تَزْرَقَّ شفتاي كورقةِ دوار الشَّمْسِ..أن تتسعَ الأحداقُ أن أتشبعَ بالماءِ وأمضي شهيدًا.. سأغافلُ أهلي وأعاندُهم وأطيرُ.. أركض.ُ.أجرى.. لأكون هُنالِكَ في الموعدِ.
لن أتأخر فالحُورِياتُ يلامسنَ شِفَاهُي..يقبعنَ هناك.. يغازلنني يجذبنني.. يغمزنَ لي بطرف العين ينادينني: تعالى للأحضانِ ..ضاقتْ بي دُنيَاكُم، وأَتُوقُ لفاكهةِ الجنةِ وثمارِ التُّوتِ، ولنهرٍعَذْبٍ جارٍ.. سَأَكُونُ شهيدًا لغرامِ الماءِ السَّلسالِ.. كنتُ أشاهدُ في آخرِ لحظاتِي أسمعُ فحيحَ أفاعٍ لأناسٍ ما عَرَفُوا للحقِّ طَرِيقًا كسراب كانوا يكذبون، و يُحَرِّضُونَ إِفْكًا على قتلِ صديقي وأَصِيحُ بِحِدَّة: قُتِلَ الخَرَّاصُونَ حين يمرِّرُ جاهلٌ أحاديثَ حبلى بالخبثِ والمكرِ، يغلِّفُهَا بأكاذيبَ شتًى، أسمعُ حين تصرخُ أمي، ويولولُ أبي وتبكي أختي، وتحزنُ، يُسْكَبُ وجعٌ في صدرِ رفاقي وأخوالي وأعمامي.. يتعكرُ صفوي، وينسابُ الحقدُ كفرسٍ جاحدٍ آبِقٍ لكنِّي أوصيكم بالصبر؛ لتنالوا الأجر فلتحتسبوني إن شاء الرحمن شهيدًا.. ضيفًا كنت أسيرُ وحيدًا لألقى ربي..ثم رحلتُ.. أعرف أن النسوة سيلبسن ثيابا سودَ حدادًا أيامًا ولياليَ!
سَيَفُتُّ الوجعُ العضدَ ويذيبُ القلبَ، ستسيلُ دموعًا تَنْحِتُ في الصَّخْرِ مجاريَ.. تصنعُ أخدودًا في الخدِّ
أتأمُّل أُمِّيَ تَغْفُو؛ لترانيَ..
تفتحُ نافذةَ البيتِ صباحًا..
تناديني توقظني: عُدْ، ولتكملْ درسَكَ.. تدعوني؛لأذهبَ للحقلِ؛ فأشاطرَهَا جمعَ القمحِ.. وأقَاسِمُهَا الضحكاتُ.. صاحت: باسمُ يا وجعًا في القلبِ يُسَافِرُ ..يا عمرًا عَبْرَ شراييني، وأوردتي.. يسكن نبضي.. يمضي.. غَبَشًا يأتي يكسر ظهري.. تُرَفْرِفُ سَعْفَةَ عُمُرِك، وَتَجِفُّ.. تُطْوَي الأيامُ
تشتدُّ الظُّلْمَةُ وتمَورُ الأعوامُ
فأقولُ لها: احْتَسِبِي
يا ويحَ القلبِ حينَ تُسْلِمُهُ الريح لِشُطْآنِ الْأَحْزَانِ.. تَبْيَضُّ العينانِ كما أبْيَضَتْ عينا يعقوبَ.. يشتدُّ الضِّيقُ، ويصيحُ الجمعُ القادمُ من قَلْبِ الكرب: غريقٌ.. غريقٌ.. غريقٌ.. وإنِّي وإنْ كنتُ غريقًا لا أخشى على نفسي بللًا بل أخشى عليكم ندمًا دمعًا يتحدرُ فجرًا!
انتشرَ الخبرُ وذاعَ
كيفَ لنا أنْ ننسى الأحبابَ؟!
كيف سننسى بسمةَ بَاسِمُنَا
كيف سننامُ ويَرْقَأ جفنٌ؟!
فقد عليٌّ شغفه.. فقد نهمه.. فقد شقاوتَهُ حين فقد رفيقَ الدَّربِ المُؤْنِسِ
وعلاه الهمُّ.. ما عاد عليٌّ يمارسُ ألاعيبه وأهازيجه.. كأنَّ صغيري قد فَقَدَ القلب.. انشرخت رُوحُهُ سُلِبَتْ مِنْهُ بَرَاءَةُ أَيَّامِهِ برحيلِ صديقِ العُمُرِ!
كنتُ أظنه لن يَأْبَهَ يَوْمًا للأحداثِ لَكِنَّ صغيري صارَ مغمومًا مهتمًا..يَذْرِفُ دمعًا كالغيمِ الهاطلِ مِدْرَارًا يبكي يَنْزِفُ قلبُهُ في صمتٍ.. يتفحصُّ ملامحَهُ بين تلاميذ الصف.. يتفرَّسُ في وجوهِ منْ حضروا فلا يرى وجهَ صَدِيقِهِ، فيغتم.. سيظلُّ الْجُرْحُ النازقُ يَثْغِبُ يَنْزِفُ دَمًا!
ما أصعبَ أن تفقدَ أخًا أو أبنًا أو من لشأنِكَ يهتمُّ!
للحبِِّ جسورٌ قد بُنِيَتْ من رملٍ؛ فَأضْحَتْ طرحًا للنَّهرِ فمضى، وظَلَلْنَا نتابعُ أحداثًا تَتَداعَى، وتَسْقِطُ من ذاكرةِ الأمسِ حياةٌ يَتَجَاهَلُها الغد ويطويها، ويرتدُّ!
قصة قصيرة بقلم/
عبدالصمد الشويخي
(كاتب من صعيد مصر، حاصل على ليسانس دار العلوم في اللغة العربية، والعلوم الإسلامية، وله العديد من القصص والقصائد، كما نال عدة جوائز أدبية في القصة القصيرة).