دار في خاطري| إلى المنفى
سأل الطالب أستاذه قائلا: علمنا يا أستاذ أن أحمد عرابي نفي إلى سريلانكا، وسعد زغلول إلى مالطا، ومحمود سامي البارودي، وأحمد شوقي وغيرهم، فلماذا لم يكونوا سعداء بذلك؟! وراح الشعراء منهم ينظمون الشعر عن الغربة والحنين للبلاد، فقال المعلم: لأنها كانت عقوبة بدلا من الإعدام، فقال الطالب: ولم كانت عقوبة؟! ألم يهاجروا من تلك الأرض إلى مكان جميل وراق يسعى الناس جميعا للوصول إليه في وقتنا الحاضر؟! ولم كان الشعب يغضب ويطالب بعودتهم؟! فرد طالب آخر كان الشعب يغضب ويطلب بعودتهم لأنه شعب حقود، لا يتمنى لهم الخير، فجميعهم يتمنون لو كانوا مكانهم.
تعجب المعلم مما يسمعه من طلابه، فأجاب: إنها أرض الوطن التي لا تقدر بثمن، ولا يجد المرء أفضل من وطنه في أي مكان في العالم، فهي الأرض الغالية التي دافعوا عنها ضد المستعمرين، فكيف يخرجون منها مطرودين؟! فقال أحد الطلاب: ولكن المرء يحيا في البلاد التي توفر له الراحة وكل مستلزمات الحياة الرغدة، وليس الأرض التي يرى فيها العذاب، فقال المعلم: إن غادرت بلدك سوف تشعر بالغربة، وتشتاق إلى أرضك مهما وجدت من رغد العيش.
لم يشعر المعلم بتأثر الطلاب بما يقول، بل مازالوا غير مقتنعين به، يرون في الهجرة حلا مثاليا لجميع مشاكلهم، متيقنين بأن الوطن لا قيمة له إذا لم يجدوا فيه الحياة الرغدة المترفة، ولا فائدة من الدفاع عنه.
بعد انتهاء اليوم الدراسي ذهب المعلم إلى مدير المدرسة، وأخبره بما حدث أثناء الدرس، واقترح عليه فكرة، قال المدير: إنها خطيرة ولكنها ربما تثمر عن شيء مفيد، ووافق على تنفيذها ولكن بحرص شديد، ومتابعة جيدة.
وفي صباح اليوم التالي وبعد دخول الطلاب إلى فصلهم، دخل المعلم وتبعه طلاب فصل آخر، قال المعلم: إن زملائكم سينضمون إليكم، فرحبوا بهم، فتعجب الطلاب من الأمر، ولكنهم رحبوا بهم كما طلب المعلم، قال المعلم: إن عددكم ثلاثين طالبا، وهم أيضا عددهم ثلاثين طالبا، فكل طالب منكم يجلس بجواره في مقعده طالبا جديدا.
لبى الطلاب طلب معلمهم وعلى الرغم من أن الفصل أصبح مزدحما وكل طالب يجلس بشكل غير مريح لكنهم لم يعترضوا على مساعدة زملائهم، ولكن الطلاب الجدد راحوا يستخدمون أدوات الطلاب الأصليين عنوة، ويفسدونها، ويأخذون كل ما هو جميل من زينة الفصل، ويلحقون الضرر بالحوائط والنوافذ والمقاعد، ويحاولون إبعاد الطلاب أصحاب الفصل عن مقاعدهم ليجلسون هم، ويبقون أصحاب المقاعد واقفون.
كان كل ذلك يحدث على مرأى ومسمع المعلم الذي لم يحرك ساكنا، فقدموا شكوتهم إلى مدير المدرسة، فراح يوعدهم بحلول وهمية لم يتحقق منها شيئا، فراحوا هم يدافعون عن أدواتهم، ومقاعدهم، وفصلهم، فحدثت شجارات عنيفة بينهم لم تغير من الوضع شيئا، فكلف أصحاب الفصل طالبا منهم لبقا، وسريع البديهة ليتحاور مع الطلاب الجدد والمعلم لإنهاء هذا الوضع، ويعود الطلاب الجدد إلى فصلهم.
تكلم الطالب الذي تم اختياره بما تم الإتفاق عليه فما كان من المعلم إلا أن طرده من الفصل وأمره أن يبقى في فناء المدرسة، وأن يأتي كل يوم إلى المدرسة ويبقى في الفناء، لا يحضر أي حصة، ولا يتعلم أي شيء، وأن يؤول مقعده للطالب الجديد الذي يشاركه فيه، أما هو فلا مقعد له في الفصل، نفذ الطالب الأمر مرغما، وغضب الطلاب غضبا شديدا، فقد شعروا جميعا بالظلم، وطالبوا بعودة زميلهم إلى مقعده وفصله، وزادت رغبتهم في إخراج الطلاب الجدد من فصلهم، فهو ملكا لهم وحدهم مهما كانت الصورة التي هو عليها.
أما الطالب الذي أمره المعلم بأن يبقى في الفناء، فقد كان حزينا، لا يريد فعل شيء سوى العودة إلى فصله ويجلس على مقعده بين زملائه، يتلقى دروسه، يتعلم، ويخطئ، ويعاقب، فهذا أفضل من حاله الآن، كما أنه لم يعد يرغب في اللعب مع زملائه من الفصول الأخرى حين يتواجدون في الفناء أثناء حصة الألعاب، فقد كان يشعر بينهم بالغربة.
تأكد المعلم من أن تجربته أتت ثمارها، فجمع الطلاب أصحاب الفصل والطلاب الجدد وأيضا الطالب الذي طرده من الفصل، وسألهم سؤالا: هل علمتم ما معنى الوطن، فأدرك الطلاب المغزى مما حدث، فاسترجعوا حديث معلمهم، وإجابته عن أسألتهم، فأجابوه: أجل! وراح كل منهم يقص عليه ما شعر به من ظلم وقهر وحب لفصله ومقعده وزملائه، فسعد المعلم كثيرا ووجه كلامه إلى الطلاب الجدد قائلا: وأنتم أيضا تعلمتم معنى الوطن، وتعلمتم أيضا ألا يجور أحدكم على حق ليس من حقه.
قدم المعلم للطلاب تعويضا عن أدواتهم التي فسدت وضاعت، ثم خاطبهم جميعا قائلا: والآن فلنتعاون جميعا لإصلاح الفساد الذي ألحق بالفصل، فرد الطلاب جميعا: على الرحب والسعة.