كاتب ومقال

بين الحقيقة والخيال| كلمات تُنقذ من الظلام.. وديع سعادة

في حيٍّ عتيقٍ ببيروت، حيث تتدلى أسلاك الكهرباء كأفاعي ميتة، وتختلط رائحة القهوة المُرة بزفرات السيارات القديمة، عاش وديَع سعادة في غرفةٍ ضيقةٍ فوق دكّانٍ لبيع الحلويات. كان يعمل نهارًا في تنظيف الصحون بين أطباق مكسورة وملاعق صدئة، بينما كانت أمه، التي أنهكها السُعال، تنتظر قرشين إضافيين لشراء الدواء. لم تكن الحياة معه سخية، فقد مات أبوه مُسنًا وهو طفل، تاركًا له عالَمًا من الأسئلة التي لم تُجاب.

لكن وديَع كان يحمل سرًّا: دفترًا أسودَ ممزقًا يخفيه تحت وسادته. في الليل، حين ينام الحيّ، يخرج الدفتر ويبدأ بالكتابة. الكلمات كانت تهرب من بين أصابعه كندى الصباح، تتحول آلامه إلى قصائد. كان يكتب عن الظل الذي يلاحق خطواته إلى العمل، عن أمه التي تشبه شمعة تنطفئ ببطء، عن بيروت التي تبتلع أبناءها ثم تبصقهم كعظام جافة. كانت القصائد مرآةً لجروحه، لكنها أيضًا منديلٌ يمسح الدم.

ذات ليلة، بينما كان يكتب عن شجرة لوزٍ جافةٍ رأها من نافذته، شعر أن الحروف تتوهج في الظلام. أخذ قصيدته إلى مقهى “الندى”، حيث يجتمع الشعراء الهاربون من واقعهم. عندما أنشدها بصوته الخشن، المُثقَل بسنوات الصمت، توقفت الأكواب عن الطنين. نظر إليه الحاضرون وكأنهم يرون شبحًا يتحول إلى إنسان. من تلك الليلة، صاروا يطلبون منه المزيد. قصائده، التي وُلدت من بؤسه، صارت جسرًا يربط قلوبَ الغرباء.

سنواتٌ بعدها، حين سُئل: “كيف صرتَ شاعرًا عظيمًا؟”، أجاب بنظرةٍ هادئة: “لم أهرب من بؤسي، بل غصتُ فيه حتى وجدتُ اللؤلؤ في قاعه. الكلمات لم تنقذني من الفقر، لكنها علّمتني أن أرى الجمال حتى في جراحي”.

هكذا صار وديَع سعادة: شاعرًا كبيرًا، لا لأن الحياة ابتسمت له، بل لأنه امتلك الشجاعة أن يبتسم للعتمة، ويكتبها نورًا.

بقلم:
د. زين عبد الهادي
الكاتب والأكاديمي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
RocketplayRocketplay casinoCasibom GirişJojobet GirişCasibom Giriş GüncelCasibom Giriş AdresiCandySpinzDafabet AppJeetwinRedbet SverigeViggoslotsCrazyBuzzer casinoCasibomJettbetKmsauto DownloadKmspico ActivatorSweet BonanzaCrazy TimeCrazy Time AppPlinko AppSugar rush