من لم يكن طعامه من فأسه، فلن يكون رأيه من رأسه، كانت هذه واحدة من العبارات الخالدة للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وأزعم أن هذه العبارة أيضًا كانت الوقود الذي دفع الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى المضي قدما في مشروعات الصوب الزراعية واستصلاح الأراضي وغيرها، وهو ما يؤكد أن علينا العمل ليل نهار لتأمين قُوتنا، ولكن واقع الحال ينبيك عن كوارث كبرى علينا أن نتحرك جميعا لمجابهتها.
في الوقت الذي أكتب فيه هذه السطور يوافق نهاية موسم زراعي في العديد من المحافظات التي تعمل ليل نهار لتأمين قوتنا، وبدهي أن نبحث -نحن الفلاحين- عن بذور جيدة الإنبات، عالية النقاوة، وغيرها من المنتجات الأساسية لبداية موسم جديد، ولكن المثير للعجب أنك لن تجد الكثير من الترشيحات المحلية الجيدة، رغم ما لدينا من كليات الزراعة وأساتذتها، ومعاهد البحوث الزراعية، في أمر يكاد يشبه اللغز أو الأحجية!
وفي الوقت الذي تحقق فيه مصر طفرة كبرى في عوائد تصدير الفواكه وعدد من المنتجات الزراعية، تعاني أسواقها نقصًا متزايدا في محصول استراتيجي مثل القمح، وتفرض عليها مستجدات السد الإثيوبي أن تحد من مساحة الأرز المنزرعة، وهما أمران كلاهما مر، ما يسترعى أن يكون لدينا جهودًا بحثية بشكل أكبر لإيجاد حلول ناجعة، وهو ما نجح فيه عدد من علماء وخبراء مصر بالخارج، على سبيل المثال، ولذلك صرنا في حاجة ماسة إلى الاستفادة من هكذا جهود لنقل الخبرة إلى أرض الوطن.
إن تعظيم الاستثمار في الزراعة لم يعد رفاهية، ولكنه أمن قومي لنا جميعا، فوفقا لنشرة التجارة الخارجية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، سجلت فاتورة استيراد المحاصيل القمح تراجعًا خلال شهرى يناير وفبراير من عام 2024 بنسبة 5%، لتسجل 614.96 مليون دولار، مقارنة بـ 647.56 مليون دولار خلال نفس الفترة من العام الماضي، بانخفاض قدره 32.6 مليون دولار، وهو مؤشر جيد، بشكل عام، غير أننا نطمح إلى المزيد.
وبحسب الهيئة العامة للاستعلامات، حققت
الصادرات الزراعية الطازجة خلال العام الماضى طفرة غير مسبوقة، لتصل إلى نحو 7.4 مليون طن بزيادة ما يقارب مليون طن عن عام 2022، وبقيمة اجمالى بلغت 3.7 مليار دولار، وهو رقم لم يتحقق فى تاريخ الصادرات الزراعية المصرية، بالإضافة إلى 5.1 مليار دولار قيمة الصادرات الزراعية المصنعة.
وبالنظر إلى الرقمين تجد فجوة دولارية تبلغ أكثر من 600 مليون دولار، وهو رقم مفزع في بلد يعاني شحًا دولاريًا وعليه التزامات لا يمكن التخلف عنها، مع وصول الدين إلى أرقام قياسية، ولذلك يجب علينا أن نتوقف للسؤال: أين ذهبت الدورة الزراعية وتحديد مناطق بعينها لزراعة المحاصيل الاستراتيجية ومتابعة الفلاحين وتوعيتهم بطرق رعاية ووقاية النباتات، بجانب وجود إرشاد زراعي بشكل مستمر، ما يضمن أعلى معدلات الإنتاج، لخفض فاتورة الاستيراد.
الأمر الذي ينبغي أن نثمنه، ما يقوم به الرئيس السيسي من مشروعات قومية في مجالات الزراعة، تؤثر بلا شك إيجابًا في ضبط الأسعار في الاسواق وضمان إنتاج محصول متميز قابل للاستهلاك محليا، وكذلك التصدير لتوفير مورد متجدد من مصادر العملة الصعبة، في وقت نواجه فيه حروبا مستمرة، على كل الجبهات، ولكن ينبغي أن يكون هناك متابعة مستمرة وتطوير ورقابة، حتى تؤتي هذه المشروعات ثمارها، على الوجه الأكمل.
النقطة الثالثة التي تسترعي الانتباه، أن معظم الفلاحين من الأجيال الجديدة قد تمدنت طباعهم، فصاروا أقرب إلى الرفاهية منها إلى الكد والتعب، وصارت هجرة الفلاحين داخليا صداعًا مزمنًا، أدى إلى انحسار الرقعة الزراعية، في تزامن مع توسع البناء على الأرض الزراعية، وهو الأمر الذي نجحت القوانين التي تم تفعليها مؤخرا في الحيلولة دون القضاء على المزيد من أراضينا الخصبة، ولكن هنا ينبغي توعية الفلاحين بطرق البناء الرأسية للحد من المساحات، والتوسع في الظهير الموازي لتعمير مناطق جديدة واستصلاح أراض فيها، ودراسة جدوى العودة إلى الدورة الزراعية.
إن الحاجة ملحة إلى تنوع المحاصيل الزراعية وتغطية احتياجات السوق، بجانب تعظيم التصدير مع تغطية احتياجات السوق، والأهم توفير مستلزمات الإنتاج للفلاح بأسعار مناسبة، سواء البذور أو الأسمدة، وكذلك توفير آليات لشراء المحاصيل بسعر عادل، مع تقليل دائرة السماسرة الذين لا يتركون للفلاح سوى الفتات.
إن الأمر لا يتحمل أن نتأخر أكثر من ذلك، فمن يتابع ما يحدث لأرض مصر الطيبة من عام لآخر، سيدرك جيدًا أن علينا العمل بسرعة لاحتواء هذه التداعيات، ووضع البدائل الناجعة.