كاتب ومقال

إبداعات كلمتنا| “في انتظار الجفاف”

ثلاثة أيام متتالية دون نقطة ماء واحدة في الحنفية العمومية، العطل كبير في الماسورة الكبيرة قبل الحارة بثلاث حارات، غرام ابنة الست شفاعة، تذهب كل يوم للحنفية ثلاث مرات على مدار اليوم، أصبح البيت بلا نقطة ماء بسبب العطل المفاجئ، لم تتوقف شفاعة عن الصياح لحظة واحدة وتصر أن تذهب غرام لحنفية الشارع العمومي لملء الماء..

الفتاة المسكينة ذات الجسد النحيل لا تستطيع فعل ذلك، لن تتحمل أن تحمل جالون الماء كل هذه المسافة من الشارع العمومي إلى الحارة، برهامي الجالس على الدوام أمام حنفية الحارة الجافة، ينتظر ظهور غرام طوال اليوم، لا يغادر مكانه إلا بعد أن تأتي وترحل ويتأكد أن أمامه بضع ساعات قبل أن تعود من جديد،
برهامي أفقر أهل الحارة بلا نزاع..

لا سكن ولا عائلة ولا تاريخ معروف ومعلوم، فقط يجلس بمنتصف الحارة ينتظر أحدهم يطلبه للعمل، جسد قوي وصحة وفيرة ولا يعترض على أي عمل مهما كانت صعوبته ومشقته، غارق في عشق غرام ولا يرى في الدنيا سواها، الفتاة ذات حُسن لا تخطئه عين، بل إن كل العيون تطاردها أينما ذهبت، لولا سلاطة لسان أمها شفاعة وصعوبة التعامل معها، لكان كل رجال الحارة يطرقون بابهم يطلبونها للزواج..

جميلة لا تضاهيها أخرى في الجمال، حتى نحافة جسدها، لم تزدها إلا رقة وبراءة جعلت حُسنها متضاعفًا، برهامي ينتظر بالساعات، وما قيمة كل الساعات المهدرة إن كان في نهايتها يحظى برؤيتها، لحظات قليلة تمحو ساعات الانتظار وتبدل مرارتها بابتسامة عشق ترتسم فوق ملامح وجهه، يراها ولا تراه.. ينتظرها ولا تشعر حتى بوجوده..

بئس حال عشقه وبئس مرارة اللهفة والاشتياق، شفاعة بعد صياح سمعه أغلب الحارة، توعدت غرام بالعقاب إن رجعت دون جالون ممتلئ بالماء، الحنفية ما زالت جافة، برهامي يفعلها ويغالب خوفه وخجله ويقفز أمامها عارضًا عليها جلب الماء لها من الحنفية البعيدة، العرض مغري ويبدد حزن غرام وكرهها لحمل الماء المسافة الطويلة..

تهديه ابتسامة وهي تضع الجالون الفارغ فوق كتفه وتجلس مكانه تنتظر عودته، هرول بفرحة طفل نحو الحنفية البعيدة، يقفز ثلاث خطوات في خطوة واحدة، نظرة إعجاب وابتسامة رضا عند عودته كفارس منتصر في أهم معاركه يحمل الجالون يتساقط منه الماء، سمع عذوبة صوتها وهي ترفع الجالون فوق رأسها،
– تسلم يا برهامي

ألقى بجسده مستندًا على جدار أحد بيوت الحارة المتهالك وهو شاخص البصر وتغمره سعادة تكفي حارتهم وكل الحارات حتى الشارع العمومي، ينظر للحنفية بتوسل ورجاء ألا تأتي بالماء مجددًا مهما كانت الأسباب، انقطاع الماء عنها هو سبيله لمزيد من الاقتراب من غرام، جفاف الحنفية يروي قلبه ويطفئ نار عشقه، خمس أيام متتالية وكل يوم يحمل الماء فوق كتفه ويحظى بابتسامة شكر من ثغر غرام..

شيخ الحارة يزف الخبر لأهل الحارة، غدًا يعود تدفق الماء من الحنفية، بُهت برهامي عند سماع الخبر وود لو أنه قام بكسر الحنفية وهشمها تمامًا، كيف له بعد ذلك أن يسمع همس غرام وأن يقتنص رؤية ابتسامتها، الحنفية تلطم أحلامه بقسوة وتعود لماضيها ويتدفق منها الماء بلا انقطاع، عادت غرام لما كانت.. لم تعد تشعر بوجوده وهو جالسًا مقرفصًا أمام الحنفية، عاد يراها وهي لا تراه..

انقطع السبب وعادت عضلاته بلا قيمة أو فائدة، وما فائدة قوة الجسد إن كان القلب عليل، ذبل برهامي وشحب وجهه وأصر على الرفض لكل من يطلب منه القيام بعمل، لا يريد شيئًا غير حمل جالون غرام، حالته أصبحت محل استغراب كل أهل الحارة، أحدهم زفر بحسرة وبصوت فيلسوف عارف ببواطن الأمور، وقال إن برهامي ممسوس، مسه جن ولعياذ بالله وأصبح مجرد مجذوب..

برهامي لا يُحدث أحدًا، لا يقوم من موضعه إلا للشديد القوي، فقط يجلس مكانه طوال اليوم يرمق الحنفية بنظرة غيظ وغضب، وهو يمني نفسه أن ينقطع الماء من جديد ويعود الجفاف لتعود ابتسامة غرام تتدفق من ثغرها وهي تهمس له برقة وأهداب مرتجفة راقصة، “تسلم يا برهامي”.

بقلم
أحمد عبد العزيز صالح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى