كلمة ورد غطاها| البوسطجي الرقمي
رواية “البوسطجي” للأديب الكبير يحيى حقي، والتي تحولت إلى فيلم سينمائي بنفس الاسم، أنتج عام 1968، حملت فكرة جديدة وقتئذٍ استهجنها الكثيرون. ففكرة أن يقوم موظف البريد بفتح الرسائل الشخصية والتجسس على العملاء لم تكن مطروحة، ولم يسمع بها من قبل، بالرغم من أنها لم يكن يجب أن تكون مستبعدة، فالنفس البشرية بها الخير والشر منذ أن هبط آدم وحواء إلى هذه الأرض.
القصة باختصار تدور حول “عباس”، موظف البريد الذي تم نقله إلى إحدى قرى الصعيد ليمارس عمله. نتيجة معاملة أهل القرية الجافة له، بالإضافة إلى تجريسه وفضحه نتيجة علاقته مع إحدى العاهرات، أدى ذلك إلى قيامه بالتجسس على كل رسائل أهل القرية بدافع الانتقام وربما بدافع من حب الاستطلاع أيضًا.
ما حدث بعد ذلك من أحداث يشير إلى أنه قد قرأ عدة رسائل من فتاة تدعى “جميلة” أرسلتها إلى حبيبها “خليل”. في الرسالة الأخيرة، أبلغته بأنها قد حملت منه وأن أمرها سينكشف. المفارقة الدرامية هي أن “عباس” لم يقم بإرسال الخطاب إلى خليل، مما أدى إلى قتل الفتاة في النهاية بواسطة والدها، وهو ما دفع عباس إلى الشعور بالذنب، حيث قام بتمزيق كافة الرسائل التي في حوزته، لأنه شعر أنه القاتل الحقيقي.
ربما دفعت هذه الرواية وهذا الفيلم القراء والمشاهدين إلى الخوف والانتباه وتوخّي الحذر فيما يكتبون وما يرسلون، وهو حذر من المؤكد أنه سيتلاشى بعد عدة خطابات، وتعود الأمور إلى سابق عهدها، فهذا هو حال الإنسان دائمًا.
المشكلة تجددت في عصر المعلومات، حيث بدأت مع رسائل البريد الإلكتروني، ثم من خلال برامج الدردشة المكتوبة، ثم استفحلت مع البرامج التي تسمح بتبادل الصور والملفات الصوتية ومقاطع الفيديو المسجلة والمباشرة أيضًا.
أتذكر أحد الأفلام الوثائقية التي كانت تشير إلى بداية الاتصالات عبر الحواسب الآلية في ثمانينيات القرن الماضي، وكيف بدأت أجهزة المخابرات في الغرب في التنصت على بعض منها لأغراض الأمن ومكافحة عملاء الاتحاد السوفيتي وغيرهم، وكيف أنهم وجدوا كما هائلًا من الاتصالات الجنسية بين المستخدمين، وهو ما جعلهم ينظرون إلى الأفراد وإلى المجتمع نظرة أخرى مغايرة.
واليوم، بالرغم من التحذيرات المتكررة، فإن البعض يشعر بأريحية تامة فيما يقوم به وما يبحث عنه وما يمارسه عبر تلك الشبكات والأجهزة. فيما يعتقد البعض الآخر أنه في أمان، وأنه قد اتخذ كافة الإجراءات الاحترازية، لكنه في الحقيقة لا يدري أنه مكشوف، وأن الأمر مرتبط بانتهاء رصيد الستر، ولا شيء آخر.