رؤى التحول الاقتصادي والطاقة| الاقتصاد بين الحقائق والأوهام

حين نتحدث عن الاقتصاد نجد أن هناك فجوة كبيرة بين الواقع والتصورات الشعبية عنه. هناك من يرى في صندوق النقد الدولي شيطانا، وهناك من يراه المنقذ الوحيد. لكن الحقيقة دائما في المنتصف حيث لا يمكن إنكار أن أي اتفاق اقتصادي يحمل في طياته فوائد وتحديات وربما آلامًا مؤقتة. لكن السؤال الأهم: لماذا نُصاب دائما بالدهشة والصدمة كلما اتخذت الدولة قرارات اقتصادية صعبة؟ ولماذا يفضل البعض التعايش مع أزمات مزمنة بدلا من البحث عن حلول جذرية؟
في عالم اليوم لا توجد دولة تستطيع العمل بمعزل عن النظام المالي العالمي. مصر مثل غيرها من الدول تواجه تحديات ضخمة بعضها نتيجة عوامل داخلية وأخرى مرتبطة بأوضاع عالمية معقدة من أزمات طاقة إلى اضطرابات جيوسياسية ألقت بظلالها على الجميع. ومع ذلك تبقى هناك حقائق يجب أن نواجهها بوضوح دون تهوين أو تهويل. لا اقتصاد بدون إصلاح فالاقتصاد مثل الجسد إذا تراكمت عليه المشكلات دون علاج يصبح المرض مستعصيًا. في العقود الماضية عانت مصر من مشكلات اقتصادية تراكمية، من دعم غير مستدام إلى فجوات تمويلية ضخمة، ومن سوق موازية للعملة إلى ضعف في الإنتاج المحلي. كل هذه المشكلات لم تكن وليدة اللحظة بل كانت تتفاقم عاما بعد عام حتى باتت الحاجة إلى الإصلاح أمرًا حتميا. لكن الإصلاح بطبيعته عملية مؤلمة. تماما كالجراحة التي قد تكون ضرورية لإنقاذ المريض. والإصلاح الاقتصادي ليس رفاهية بل هو السبيل الوحيد لضمان الاستقرار على المدى البعيد.
هناك مقاومة طبيعية لأي تغيير خاصة عندما يكون التغيير مرتبطا بقرارات تمس حياة الناس اليومية. لكن في المقابل لا يمكن لدولة أن تحقق الاستدامة الاقتصادية إذا ظلت تعتمد على المسكنات بدلا من الحلول الحقيقية. هل يمكن تصور اقتصاد مستقر بدون ضرائب قوية؟ هل يمكن تحقيق التنمية دون استثمارات جادة؟ هل يمكن توفير فرص عمل دون دعم الصناعة المحلية؟ الإجابات واضحة لكن المشكلة تكمن في أننا لا نريد مواجهة هذه الأسئلة بواقعية، بل نفضل أحيانًا التمسك بالوضع القائم حتى لو كان غير قابل للاستمرار. الاقتصاد ليس شعارات فهناك من يروج لفكرة أن الحل يكمن في العودة إلى سياسات الماضي سواء بدعوى العدالة الاجتماعية أو حماية الفقراء. لكن في الواقع لا توجد دولة في العالم الآن تعتمد على سياسات الاقتصاد الموجه كما كان الحال في الستينيات. حتى الدول التي كانت تتبنى نهجًا اقتصاديًا اشتراكيًا ، مثل الصين وروسيا، تحولت إلى اقتصاديات السوق لأنها أدركت أن العزلة الاقتصادية تعني الركود.
التحدي الحقيقي ليس في اتخاذ قرارات اقتصادية بل في كيفية إدارة هذه القرارات بحيث لا تؤثر سلبًا على الطبقات الأكثر ضعفًا. هذا هو الدور الذي يجب أن تقوم به الدولة من خلال برامج حماية اجتماعية فعالة ، ومنظومة دعم ذكية توجه الموارد إلى مستحقيها، بدلا من توزيعها بشكل غير عادل. مصر في مسار مختلف وعندما ننظر إلى الأرقام نجد أن الاقتصاد المصري بدأ في تحقيق تحولات إيجابية رغم كل التحديات. احتياطي النقد الأجنبي يرتفع تحويلات المصريين بالخارج تزداد، الاستثمارات الأجنبية تتدفق، والصادرات تحقق نموا ملحوظا. لكن في المقابل لا يزال الطريق طويلا لتحقيق الاستقرار الكامل. سعر الصرف يحتاج إلى مزيد من المرونة الإيرادات الضريبية يجب أن تنمو بشكل أكثر عدالة والدعم يجب أن يكون أكثر كفاءة. التحدي الأكبر أمام مصر ليس مجرد تحقيق أرقام إيجابية، بل في جعل هذه الأرقام تنعكس بشكل حقيقي على حياة المواطنين. وهذا يتطلب وقتًا وصبرًا لأن بناء اقتصاد قوي لا يتم بين ليلة وضحاها بل يحتاج إلى رؤية واستمرار في الإصلاح.
الاقتصاد ليس مجالا للعواطف أو الشعارات بل هو معادلة تعتمد على الحقائق والأرقام. هناك من يريد تصوير الإصلاحات الاقتصادية على أنها شر مطلق وهناك من يراها خيرًا بلا ثمن. لكن الحقيقة دائما في المنتصف. مصر تسير في طريق صعب لكنه الطريق الوحيد نحو اقتصاد قوي ومستدام. من يريد حلولا سهلة فلن يجدها ومن يبحث عن معجزات لن يجدها أيضا. لكن من يؤمن بأن العمل والإصلاح هما السبيل الوحيد للخروج من الأزمات، سيجد أن المستقبل يحمل فرصا أفضل. التغيير صعب لكنه ضروري. والنجاح في الاقتصاد لا يأتي بالصراخ أو الشعارات، بل بالعمل الجاد والصبر على التحديات.