كاتب ومقال

روايات عالمية| عن ميرامار نجيب محفوظ

في فندق “ميرامار” المطل على بحر الإسكندرية الضبابي، لم يكن الندلاء والنزيلات مجرد أرواح عابرة، بل تجسيدات لأطياف مصر المتغيرة. كانت زهرة، الفتاة الريفية الهاربة، حلمًا بريئًا تلاشى بريقه أمام صخب المدينة. كانت علية زايد، المثقفة الحائرة، صدى لجيل يبحث عن هويته بين الماضي والحاضر. أما مريانا، السيدة العجوز الأرستقراطية، فكانت شبحًا لزمن ولى، تتشبث بذكريات باهتة.
لم يكن الفندق مجرد مكان إقامة، بل كان مرآة سحرية تعكس أحلامًا مجهضة، وطموحات متكسرة، وأوهامًا تتلاشى مع أمواج البحر. كانت كل غرفة فيه تحوي قصة مكتومة، وكل نظرة متبادلة تحمل سؤالًا بلا جواب.
ذات ليلة، وبينما كانت رياح الخريف تعوي خارج النوافذ، شعرت زهرة بأن جدران غرفتها تتمدد، وأن البحر يقترب ليغمرها بأسراره. رأت في انعكاس المرآة وجهًا آخر، وجه امرأة عجوز تحمل ملامح حزن أبدي. همست لها المرأة العجوز عن قصص حب ضائعة، وثورات لم تكتمل، وأحلام تحولت إلى رماد.
في الردهة، كانت علية تتحدث مع شبح كاتب راحل، يملي عليها كلمات لم تُكتب بعد، أفكارًا ثائرة تتحدى الزمن. كان الشبح يتلاشى تدريجيًا مع كل كلمة تنطق بها علية، كأنه يمنحها روحه لتكمل رسالته الضائعة.
أما مريانا، فكانت تجلس في شرفتها المطلة على البحر، ترى سفنًا شبحية تبحر في الأفق البعيد، تحمل مسافرين من عوالم أخرى. كانت تسمع أصوات موسيقى خافتة قادمة من أعماق المياه، همسات الماضي البعيد تروي حكايات عن مجد زائل وعشق أبدي.
في “ميرامار”، لم يكن الزمن خطًا مستقيمًا، بل كان دائرة تتداخل فيها الأجيال والأحلام والأوهام. كانت النزيلات يعشن في حالة من الترقب الدائم، ينتظرن شيئًا غير محدد، خلاصًا قد يأتي أو لا يأتي أبدًا.
في النهاية، غادرت زهرة الفندق، تاركة خلفها حلمًا مكسورًا ربما ينبت من جديد في مكان آخر. اختفت علية في زحام المدينة، تحمل في قلبها شرارة الأفكار التي همس بها الشبح. وظلت مريانا وحيدة في غرفتها، تحدق في البحر الذي ابتلع ذكرياتها وأحلامها.
بقي “ميرامار” شامخًا على شاطئ الإسكندرية، ليس فندقًا بالمعنى التقليدي، بل مساحة للذاكرة المتخيلة، حيث تتجسد أرواح مصر المتعثرة في صور شعرية عابرة، وحيث يصبح الواقع مجرد خلفية لحركة الأطياف والأحلام. كان الفندق نفسه كائنًا حيًا يتنفس حكايات قاطنيه، يحفظ أسرارهم، ويطلقها في مهب الريح كأصداء باهتة للزمن.

بقلم:

د. زين عبد الهادي

الكاتب والأكاديمي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى