كاتب ومقال

إبداعات كلمتنا| “بيت الكيلاني”

انتهى حفل الزفاف وتعالى الصياح المرح في توديع العروسان وهم يغادرون للمطار وضمت هالة العروس بين ذراعيها بقوة وهى تبكي بحرقة وسط نظرات تعاطف الواقفين، بسفر نهى مع عريسها أصبحت هالة وحيدة بعد هجرة أكرم إبنها الأكبر من قبل منذ عدة سنوات..

عادت وحدها دون رفقاء لبيتها ودون أن تعي السبب وقفت أمام البيت من الخارج تنظر إليه بشجن عارم ودموعها تنسال على وجنتيها بحسرة عارمة، بيت الكيلاني أصبح خاو من سكانه بعد ان كانت شققه مكتظة بأبناءه وأحفاده، مات شقيقها الأكبر وبعد موته هجرت أرملته البيت مع أولادها وأغلقت شقتهم بكم كبير من الأقفال الضخمة وبعده ترك شقيقها البيت بحثًا عن رزق أوفر في محافظة بعيدة وإكتفى بوضع قفل واحد الكتروني على باب شقته الخاوية الموصدة..

لم يتبقى ببيت الكيلاني غيرها هى وزجها وإبنها أكرم وإبنتها نهى، ولأن سُنة الحياة الرحيل والمغادرة، قرر أكرم الهجرة لكندا وبعدها بأشهر قليلة رحل زوجها وبعد رحيله بعام تفاجئت هالة بنهى تضرب رأسها بخبر اعتزامها السفر مع عريس بعد الزفاف لإحدى دول الخليج..

طالت نظرتها نحو البيت العتيق المكون من ثلاث طوابق وهى تشعر به كأنه رجل عجوز واقف بسكون وشموخ وسط البنايات المتعددة الطوابق، عجوز وحيد بلا رفقاء أو أصدقاء، لحن وتري قديم وسط مجموعة من الموسيقى الصاخبة، لا تستطيع تميز لحنه وهو يصر على الإستمرار في العزف..

لأول مرة تشعر بالوحشة ويتسرب لها إحساس الخوف وهى تجد نفسها وحيدة دون رفقة أي شخص على الإطلاق داخل البيت، لم يتبقى ببيت الكيلاني غيرها، جدرانه السميكة حجبت عنها كل الاصوات بعد غلق باب شقتها إلا صوت واحد فقط، صوت يأتي من أعماقها يُلح عليها بالسؤال -وماذا بعد؟-

وُلدت في البيت وعاشت فيه حتى صارت شابة بملامح رقيقة جميلة وأصر والدها أن تتزوج وتعيش معهم في البيت وألا تغادره، بيت الكيلاني جدها الأكبر هو كل حياتها، ذكريات الطفولة والصبا والشباب وكل عمرها، لها في كل ركن ذكرى وفي كل زاوية قصة..

لم تستطع النوم وظلت حتى شروق الشمس جالسة بملابسها وبنفس حالتها في شرفتها وهى تطلع للطريق بلا تركيز حتى بدأ الناس في الخروج وإمتلأ الشارع بالحركة واستعاد نشاطه، كان زوجها يحمل نفس أفكار والدها وإشتركوا في رفض فكرة عملها وها هى الآن وهى ببداية عقدها الخامس تجلس وحيدة ولا تجد ما تفعله أو يشغل وقتها غير نشاطات ومهام منزلية بسيطة وأكبر أفعالها الذهاب كل مطلع شهر جديد لسحب معاش زوجها ووالدها..

تعاقبت الأيام وهى إزدادت شعور بالوحدة وأصبح وجهها شاحب وأعينها مُرهقة منتفخة من قلة النوم وكثرة التفكير، لم يكن بمقدورها الوقوف بوجه رغبات أكرم ونهى وتعطيل مستقبلهم فقط من أجل إشعارها بالونس، الكل يعدو نحو رغائبه غير عابئ بمن يتألم نتيجة ذلك، نهى تهاتفها كل ثلاثة أو أربع أيام وأحيانا مرة واحدة فقط في الاسبوع بينما أكرم يظل بالأشهر حتى يُنعم عليها بمكالمة قصيرة مختصرة لا تتجاوز دقيقتان كأنه يؤدي واجب ثقيل بشكل آلي خالي من ملامح الإشتياق الحقيقية..

أصبح جلوسها في الشرفة تطالع حركة الشارع هو كل شغلها الشاغل طوال الوقت وإنساقت خلف إستدعاء ذكريات الماضي حتى تخطت واقعها وحاضرها وأصبحت حتى تنسى صُنع طعام لها وتكتفي في أغلب الأوقات بكوب من الشاي مع قطعة خبز جافة..

مشاجرة مضحكة بين طفلتين أسفل البيت جذبت إنتباهها وووقفت بجسد متدلي من الشرفة تتابع أحداث المشاجرة وفصولها بين صغيرتين في عمر الزهور وهم مختلفون على طريقة نطق كلمة “جاروف”، ضحكت على طريقتهم في الحديث وقررت النزول لهم، هى تعرفهم وتعرف أنهم بنات حارس البناية المجاورة..

إقتربت منهم برقة وتدخلت في حل مشكلتهم الخلافية وأصرت أن تشتري لهم قطعتي حلوى وبعد ظهور أمهم دار بينهم حديث قصير فهمت منه أنها لا تقرأ ولا تكتب ولا تستطيع مساعدتهم في المذاكرة، لم تحتاج لوقت طويل لتطلب منها إرسال البنتين لشقتها لمساعدتهم في المذاكرة، أصبحتا تقضيان معها وقت لا بأس به وهى فَرحة مبتهجة من وجودهم معها وصنعت لهم الحلوى بنفسها وباتت تقفز فرحًا كلما تأكدت من نباهة وذكاء الطفلتين، بعد أسبوع إنضم للطفلتين ثلاتة أطفال جدد وفي غضون شهر كانت شقتها تستقبل الصغار من كل بنايات الشارع والشوارع المجاورة..

لم تعد تتوقف حركة الدخول والخروج طوال النهار وكلهم أطفال صغار يحملون كراريس مزينة بالرسومات المبهجة وهى تقضي الليل في صنع الحلوى لهم وفي النهار يأتون لها في وفود وأفواج متعاقبة حتى أصبح الجميع يعرف شقة الست هالة ببيت الكيلاني القديم أقدم بيوت المنطقة، السيدة الطيبة التي تُعلم الصغار بالمجان دون ضجر أو رفض وأيضا تقدم لهم الحلوى..

لم تعد هالة مشغولة بمرارة تباعد مكالمات أكرم ولا سرعة نهى في إنهاء مكالمتها ولا ندرة تلقيها اتصال من شقيقها، أصبحت مشغولة بشكل كامل مع الصغار وأصبحت الجملة الثابتة المتوقعة على مسامع كل أم بسيطة في الحي عند سؤال أطفالها عن وجهتهم.. رايحين بيت الكيلاني.

بقلم
أحمد عبد العزيز صالح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى