رؤى التحول الاقتصادي والطاقة| ما بعد التوازن.. مصر تكتب معادلة جديدة للعالم

في زمن تتبدل فيه موازين القوة كما تتبدل الفصول تقف مصر — بثبات الجبال ورؤية الحكماء — لتُعيد تعريف معنى “التوازن” في عالم يزداد اضطرابا وتكتب بمعادلاتها الخاصة صفحة جديدة في كتاب السياسة الدولية. لم تعد القاهرة مجرد طرف في معادلة الشرق الأوسط بل أصبحت أحد صُنّاعها الأساسيين تُمسك بخيوط الحركة الإقليمية والدولية دون ضجيج ، وتُدير التوازنات بذكاء استراتيجي جعلها نقطة الارتكاز في محيط مضطرب.
لقد أنهك العالم البحث عن مركز جديد للجاذبية السياسية بعد أن اختلّت الموازين بين القطبين التقليديين فظهرت القاهرة — بهدوئها العميق ومواقفها المتزنة — كأنها القلب النابض الذي يضبط الإيقاع من غزة إلى الخرطوم ومن البحر الأحمر إلى المتوسط. تتعامل مصر مع الأزمات لا كطرف متأثر بها بل كفاعل يمتلك أدوات الحلّ ورؤية المآلات.
حين اختارت مصر طريق “الفاعلية الهادئة”، لم يكن ذلك انسحابًا من صخب العالم بل ارتقاءً فوقه. فبدلا من الدخول في سباق الشعارات والمكايدات اختارت أن تُقدّم نموذجا عمليا للاستقرار عنوانه: “من يصنع التنمية يصنع الأمن”. وبينما تُجرب قوى كبرى إدارة المنطقة بقرارات فوقية تُصر القاهرة على أن الحلول لا تأتي إلا من الأرض من الشعوب ذاتها من الإقناع لا الإملاء ومن الشراكة لا الوصاية.
ومع اشتداد الصراعات في الشرق الأوسط — من غزة إلى البحر الأحمر ومن الخليج إلى القرن الإفريقي — بدا واضحا أن مصر هي الدولة الوحيدة التي لا تتورط في اللعبة لكنها تديرها بعقل يوازن بين المبدأ والمصلحة. فهي تدرك أن العالم بعد الحروب ليس كما قبلها ، وأن من يريد أن يحيا في الغد لا بد أن يُعيد تعريف قواعد اللعبة من الآن.
اليوم، تُعيد القاهرة صياغة حضورها عبر ما يمكن تسميته “دبلوماسية الاستقرار النشط”، فهى لا تكتفي بتثبيت التوازن القائم بل تُنتج معادلات جديدة تجعل الاستقرار نفسه قوة مؤثرة. من الوساطة في النزاعات إلى حماية الممرات البحرية، ومن تأمين الغذاء والطاقة إلى بناء تحالفات التنمية تتحرك مصر في كل الاتجاهات دون أن تفقد بوصلتها نحو المستقبل.
لقد أدركت القيادة المصرية مبكرا أن التوازن لم يعد كافيا وأن العالم يحتاج إلى طرفٍ يُعيده إلى معادلة “العقل قبل القوة” فبدأت مصر تُعيد رسم علاقاتها الدولية على هذا الأساس: تنوّع في الشركاء، استقلال في القرار، وانفتاح على المستقبل. فمع الشرق تتعامل بندّية ومع الغرب بتفاهم ومع الجنوب بروح الأخوة ومع الجميع بثقة لا تعرف التبعية.
وحين تتحدث القاهرة اليوم عن التنمية فهي لا تتحدث عن مشاريع إسمنت وحديد بل عن مشروع وطني شامل يعيد بناء الإنسان ويضع الاقتصاد في خدمة الكرامة الوطنية. فالمعادلة الجديدة التي تكتبها مصر ليست سياسية فقط بل حضارية بامتياز: مزيج من الإرادة والاستقلال ومن الإيمان بأنّ المستقبل لا يُمنح بل يُصنع.
في هذا السياق، يصبح افتتاح المتحف المصري الكبير مثلا جزءا من خطاب مصر الجديد للعالم: ليست رسالة ثقافية فحسب بل إعلان عن استمرارية حضارة لم تنكسر رغم تبدل الإمبراطوريات. مصر تقول للعالم: من صنع الأهرام قادرٌ أن يصنع المستقبل ومن علّم الدنيا الحروف قادر أن يكتب سطور الغد.
إن ما بعد التوازن هو لحظة مصرية بامتياز. لحظة تستعيد فيها القاهرة موقعها كصوت عاقل وسط العواصف وكمركز يُعيد هندسة الإقليم بلغة منضبطة لا تعرف المغامرة. ومع كل خطوة تخطوها الدولة المصرية نحو التنمية والأمن يتضح أن العالم أمام فصل جديد تُكتبه مصر بالحكمة لا بالصوت العالي.وبالإنجاز لا بالشعار.
فالعالم الذي تاه بين القوة والجنون يبحث اليوم عن معادلة تحفظ للإنسان إنسانيته. ومصر — بتاريخها العميق ورؤيتها المتوازنة — تُقدّم هذه المعادلة للعصر الحديث:
“القوة الحقيقية هي أن تملك الاتزان حين يفقده الآخرون، وأن تبني حين ينشغل الجميع بالهدم”.




