أحمد سليمان
في إحدى مستشفيات القاهرة جلست إيناس المرأة الأربعينية في الغرفة رقم 7 انتظاراً لحضور طاقم التخدير لإجراء جراحة من أجل إزالة الرحم بسبب وجود ورم فيه، ورغم أن الورم حميد إلا أن حجمه الكبير حتم على الأطباء اتخاذ قرار بضرورة استئصاله.
رفضت إيناس أن تصطحب أبناءها: “هنا” صاحبة العشرين عاماً وشقيقها “شريف” الذي يصغرها باثنتي عشرة سنة إلى المستشفى ولم يأت معها إلا زوجها محمد الذي تركها في الغرفة وذهب لإنهاء بعض الحسابات مع الإدارة انتظاراً لحضور الطبيب المختص لإجراء الجراحة التي طمأن الأطباء إيناس بشأنها وأكدوا أن نسبة الخطر والمضاعات المتوقعة نتيجة إجرائها ضئيلة جداً.
لم تجد إيناس راحة في أجواء المستشفى فهي أجواء مقبضة بطبيعتها كما أن إيناس كانت معظم أوقات حياتها تتمتع بصحة جيدة حتى جاءتها محنة المرض التي أنهكتها جسدياً ونفسياً لوجود شك في بداية اكتشاف الورم بأنه خبيث قبل أن يتم التأكد أنه ورم حميد ولكن يجب أن يُستأصل جراحياً.
حضرت طبيبة التخدير وتبادلت حديثاً لطيفاً مع إيناس قبل أن تعطيها الحقنة المخدرة من أجل تجهيزها لإجراء الجراحة وتغيب إيناس عن الوعي تماماً وتدخل في عالم آخر.
تشعر إيناس أنها خفيفة غير مثقلة بأي أعباء للمرض وكأنها ترفرف بجناحين في السماء، ثم تحس وكأنها في بداية نفق نهايته تضيء حيناً كأنها الكوكب الدري في الأفق، وتظلم حيناً بحيث لا يرى الرائي كف يده، وتجد نفسها فجأة وكأنها بين أبنائها في المنزل رغم أنها لم تغادر النفق، ولم تتفاعل مع هنا أو شريف لكنها كانت تسمع حديثهما جيداً..
شريف: هي ماما مش هتيجي بقى.
هنا تجيب بصوت تملؤه دموع كتمتها بصعوبة: زمانها جاية يا حبيبي هي بس بتاخد حقنة عند الدكتور.
ثم تدخل هنا إلى غرفتها لتحدث والدها عبر الهاتف…
هنا “بصوت يبكي”: إيه يا بابا مطمنتنيش ليه.. ماما.. ماما داخلة العمليات بقالها أكتر من 6 ساعات والعملية المفروض تخلص في أقل من كدة بكتير.
محمد: والله يا بنتي أول ما أي دكتور يخرج هقولك… محدش خرج من أوضة العمليات عشان أسأله.. متقلقيش يا حبيبتي ومتخليش أخوكي يحس بحاجة..وأنا أول ما ماما تخرج وتفوق هطمنك على طول.
كانت إيناس تسمع وتشاهد كل تلك المشاهد دون أن تتفاعل أو تحاول أن تتفاعل، ثم يأتي إلى سمعها صوت لا تعرفه جيداً…
الجراح: استدعوا لي طبيبة التخدير فوراً… الجرعة اللي أخدتها المريضة قبل العملية مكنتش مظبوطة…
وتغيب المشاهد والأصوات من أسفل منها لبعض الوقت، فتسمع أصواتاً متضاربة مختلفة لم تعرف لها مثيلاً، حيناً تطمئن حين تسمع تسابيح باسم الرحمن بأصوات ملائكية، وحيناً تخشى عندما تسمع صراخاً وتعاتباً بين أناس لا تراهم ولم تميز أصواتهم في مكانها داخل النفق الذي ظلت في بدايته تدفعها قوة خفية إلى الانطلاق فيه فتحبو خطوات، ولا تكاد تبلغ منتصفه حتى تجبرها قوة أخرى على الرجوع إلى بداية النفق، وهي لا تعرف حقيقة شعورها.. هل تحب أن تنطلق إلى حيث اللاعودة، أم تعود.
لم تعرف إيناس زماناً أو مكاناً لما هي فيه، لم تعد الساعات، كل ما كانت تفعله هو ترقب الأصوات من فوقها ومن أسفل منها وقد كان آخر ما ورد إليها حديث بين زوجها وشخص لا تعرفه..
محمد “في مكتب مدير المستشفى”: يعني أنا عايز أعرف الوضع إيه دلوقتي يا دكتور.. مراتي بقالها أسبوع في غيبوبة ومحدش بيقولنا حاجة، شوية يقولولي ممكن تفوق خلال أيام، وشوية تقولو لي الحالة حرجة بس مستقرة.. هو في إيه بالظبط؟
مدير المستشفى: أنا مش هخبي على حضرتك، في خطأ من دكتورة التخدير اتسبب إن الدم موصلش للمخ.. ومدام إيناس جالها حاجة بنسميها تلف في جزء من الدماغ..هي بين إيدين ربنا..طبياً منقدرش نعمل حاجة غير إننا نتابع الحالة.. أما دكتورة التخدير….
ثم ينقطع الكلام عن مسامع إيناس، ورغم هوله إلا أنها لم تخف.. لم تشعر بالصدمة.. لم تتساءل عن مصير أولادها..وظلت على حالها تنشد سماع الأصوات الملائكية وتضع أصابعها في أذنيها إذا ما حل وقت سماع الصراخ والعتاب، تلتمس النور في نهاية النفق فتأمل الوصول إلى ذاك الكوكب الدري، وتستعيذ بالله إذا ما حل الظلام على المكان فلم تر كف يدها.
نبذة عن الكاتب
أحمد سليمان
أحد الكتاب الشباب لمنصة كلمتنا
محرر صحفي تخرج في كلية الإعلام جامعة القاهرة
صدرت له 4 كتب
منهم ديوانا شعر باللغة العربية “بلاء عينيك أطلال”
مجموعتين قصصيتين “مواسم الموت وعيادة فقدان الذاكرة”
للتواصل :