ريم السباعي
مع إشراقة شمس يوم جديد، يوم ربيعي النسيم، حمل يحيى حقائبه واستقل سيارة متجها إلى المطار، وفي السيارة كان يحيى ينظر أمامه إلى الطريق، ولكنه لم يكن يراه، بل كان يرى أحلامه ومستقبله الزاهي في نيويورك، فقد تناسى كلمات زوجته، ونظرات أبنائه ليجعل كل مشاعره تتركز في هذه الفرصة التي لا تأتي للمرء مرتين.
لطالما تمنى العيش في إحدى الولايات الأمريكية، أو إحدى الدول الأوروبية حيث العمل الجاد، والنظام، والتحضر، والتقدم، بالإضافة إلى المال الوفير، وها هي الفرصة أتته حين أخبره صديقًا له يعمل بنيويورك أنه وجد له فرصة عمل جيدة في مصنع للصناعات الثقيلة هناك، فلم يتردد يحيى لحظة واحدة في قبول العمل، وفي أسرع وقت استخرج الأوراق اللازمة للسفر.
وصل يحيى إلى المطار وبدأ في إنهاء الإجراءات اللازمة وقلبه ينبض فرحًا وسعادة، فهو لا يصدق أن رحلته الفعلية نحو الأفضل ستبدأ بعد ثلاث ساعات لا أكثر، وها هو يعبر بوابات التفتيش ويجلس ينتظر سماع مكبر الصوت ليعلن عن رحلته، وأخيرًا حان الوقت فخرج من بوابة الخروج فأحس بأنه يخرج من أنبوب ضيق إلى فضاء مترامي الأطراف، فصعد إلى متن الطائرة، وجلس في مقعده، وراح يستمع الى تعليمات المضيفة قبل إقلاع الطائرة.
إن هذه هي المرة الأولى التي يسافر فيها يحيى خارج مصر، وهي أيضًا المرة الأولى التي يركب فيها طائرة، فقد كان ملتزمًا بتنفيذ التعليمات، واتباع الإرشادات ليضمن سلامة وصوله، ولكن ماذا يفعل خلال اثنتي عشرة ساعة داخل الطائرة حتى يصل إلى وجهته؟! فلقد خطط لهذه الفترة جيدًا، أولًا تناول كوبًا من عصير البرتقال، وبعدها أخرج من حقيبته الصغيرة التى أبقاها في حوزته كتابًا يتحدث عن أمريكا الشمالية ليعرف المزيد من المعلومات عن المكان الجديد الذي انتقل للعيش والعمل به.
بعد أربع ساعات أخذ استراحة قصيرة ليتناول خلالها وجبة خفيفة من المكسرات ليعود بعدها إلى القراءة حتى انتهى من الكتاب، وبعد ذلك قرر النوم ليستيقظ بعد فترة وجيزة إثر مطبًا هوائيًا أحدث إرتجاجًا عنيفًا في الطائرة، فلم يستطع النوم بعدها ثانية، فقرر الإستماع إلى الموسيقى عبر سماعة الأذن الخاصة به حتى لا يتسبب في إزعاج المسافرين، وأيضًا لكي لا يستمع إلى الأصوات الغريبة من حوله التي جعلته يشعر بأن الطائرة ستسقط بين لحظة وأخرى.
مرت الساعات وأوشكت الرحلة أن تنتهي، فشعر يحيى بأنه يدنو نحو غايته شيئًا فشيئًا، ولكن سرعان ما حدث ما لم يتوقعه، فلقد انفجر أحد محركات الطائرة، ليتسبب في كسر أحد النوافذ، وعلى إثره سمع صوت المضيفة تطلب من المسافرين وضع أقنعة الأكسجين للحفاظ على حياتهم، فلقد راح الهواء يتسرب من الطائرة بسبب الضغط مما يؤدي إلى تناقص الأكسجين، ومن ثم هبطت الطائرة المحلقة على ارتفاع ثلاثين ألف قدم لتحلق ببطء على ارتفاع خمسة عشر ألف قدم.
وضع يحيى قناع الأكسجين وعندئذ تذكر كلمات زوجته التى لم تتردد بذهنه منذ خروجه من البيت حتى هذه اللحظة، فهي الآن تتردد بذهنه ويسمعها واضحة جلية حتى أنه يكاد لا يسمع غيرها فقد كانت تقول له منذ علمت بأمر سفره: “لا داعي للسفر، وإرضى بما قسمه الله لنا، إن راتبك من عملك يكفينا، ولا داعي لفيلا كبيرة، ولا سيارة فخمة، وشاليه في الساحل الشمالي”، فكان يقول لها: “السفر ليس للمال وحسب، بل للعيش في مكان راقي ومنظم بين الشعوب المتحضرة”.
تذكر ردها الذى أغضبه، فقد قالت: “إن الإنسان هو صانع التقدم والتحضر لا الأرض والمكان، فلقد خلق الله الكون بأكمله جميلًا، فالإنسان هو الذي يحافظ على هذا الجمال، وهو الذي يشوهه، فلنبدأ بأنفسنا ونخطو الخطوة الأولى نحو الإصلاح”، وتذكر كيف انتقدها واتهمها بالجبن حيث أنها تخشى العيش في بلد لا تعرفها بعيدًا عن أهلها، وأصدقائها، وأنهى ذلك الحديث بأنه لن يعود عن قراره، وسيسافر شاءت أم أبت”.
بعد لحظة شعر أنها النهاية، فتذكر أطفاله الثلاثة، وتذكر ضجيجهم، ولعبهم، أصوات ضحكاتهم وبكائهم، وتذكر جلستهم معًا على مائدة الطعام، ثم تذكر زوجته وحبها له وخوفها الدائم عليه، تذكر طلبات أولاده التي لا تنتهي، تذكر ألعابهم التي دائما يتعثر بها عند عودته من العمل، تذكر شجاره مع زوجته تارة حول صراخ الصغار، وتارة حول راتبه الذي لا يكفي متطلبات البيت، ثم تذكر حين ابتاع لعبة لأبنائه عبارة عن سيارة، يقومون بتركيبها ثم تحريكها بجهاز تحكم عن بعد، وتذكر سعادتهم العارمة بها، وكيف جلس هو وزوجته معهم لتركيبها، تذكر كل كلمة تفوهوا بها حينها، وكل موقف أضحكهم، تذكر نزهاتهم وإن كانت قليلة، فشعر بحنين إليهم، فأحس بأنه يريد رؤيتهم، وضمهم إلى صدره.
ثم راح يتذكر أيام دراسته، مدرسته، وجامعته، وأصدقائه، تذكر والديه، وإخوته، وبيته القديم، تذكر الحي الذي عاش فيه وحفظه عن ظهر قلب، تذكر المكان الذى رأى فيه زوجته لأول مرة، فشعر بحنين إلى وطنه، فهو لأول مرة يشعر بالغربة، ويعي جيدًا ما معناها، فأحس بأنه زهرة اقطتفت من بستانها، أو شجرة اقتلعت من أرضها، فأراد العودة إلى تلك الأرض التي نشأ وترعرع بها وبعدها تنصل منها.
فجأة وهو يشعر بحنينه الجارف إلى أهله ووطنه، تذكر أنه حين يرحل لن يترك لزوجته وأطفاله أي دخل، فلقد ترك عمله قبل سفره على أمل العيش الرغد، والآن ماذا سيحل بهم، وهنا أغمض عيناه ولم يعد يفكر في أي شئ، لم يمر وقتًا طويلًا على إنفجار المحرك حتى استطاع الطيار الماهر السيطرة على الطائرة حتى هبطت على أرض مطار نيويورك دون خسائر في الأرواح.
لم يصدق يحيى أن الله سبحانه وتعالى قد نجاه من ذلك الحادث المروع فحمده كثيرًا، ولكنه ما زال يشعر بذلك الحنين الجارف إلى أهله ووطنه، وشعر بأنه ابتعد عنهم لا لعدة ساعات بل لعشرات الأعوام، فقرر أن يعتذر لصديقه عن قبول العمل ويعود على الفور إلى وطنه ليبدأ أولى خطوات الإصلاح وهي إصلاح نفسه أولًا.
نبذة عن الكاتبة:
ريم السباعي
أحد الكتاب الشباب لمنصة كلمتنا
حاصلة على ليسانس آداب في التاريخ من جامعة عين شمس عام 2005
صدر لها مجموعة قصصية بعنوان: رحالة في جزر العجائب
صدر لها رواية بعنوان: ويعود ليلقاها
للتواصل: