كاتب ومقال

ومضة| صور

بقلم: أحمد سليمان

أحمد سليمان

امتلأ منزل “درية” السيدة التي تجاوزت الثمانين من عمرها وصارت على حفة المغادرة بالصور، فلم يكن هناك أي فرد من عائلاتها غابت صورته عن بيتها سواء ممن هم على قيد الحياة أو من غادرت أرواحهم الدنيا.

كانت درية تنظر إلى الصور بأنها لحظات سرقتها من الدنيا، لحظات جعلت من المحال ممكناً، ولم تكن تشعر بوحدتها لأن الصور كانت تؤنسها في معيشتها بمفردها لا يزورها سوى أبنائها الذين يتناوبون على خدمتها مرة أو مرتين أسبوعياً وكأنه واجب محتم عليهم القيام به، فإذا ما أدوه فروا مهرولين إلى حياتهم، حياة لم يعد لتلك العجوز مكان فيها.

حياة لم يعد لدرية مكان فيها سرقت منها لحظات قبل أن تغيب عنها رغم الحضور، إلا أنه كان حضوراً ألعن من الغياب، وكثيراً ما كانت درية تفضل أن تبقى بين صورها لا يزورها أحد لولا حاجتها لبعض الأمور التي لم تساعدها صحتها على القيام بها.

رأت درية في الصور التي احتفظت بها حياة من أجمل ذكرياتها، فهذا ولد سافر، وهذه ابنة تزورها كل بضعة أشهر على عجل، وذاك ولد حبيب بين أحضان الثرى، وكأن الأموات كالأحياء في الصور، كلاهما بلا تأثير في حياتها إلا بتجميل أيامها وإن كان تجميل كاذب.

“زيارات بلا روح” هكذا كانت تصف أوقات زيارة الأبناء لها في قرارة نفسها دون أن تشتكي، حتى في الأعياد منهم من يكتفي بمحادثة هاتفية ومنهم من يأتي لنصف ساعة ثم ينصرف تاركاً العجوز إلى عالمها الذي خلقته فحمل كل ذكرى جميلة وتجاهل الأيام السوداء، عالم لم يهزمه مرض ولا موت ولا وحدة لكنه هزمهم جميعاً، ولم تخش درية الاستغراق فيه لأنها طريدة عالمها الأول إلا للحظات لم تشعر فيها سوى أنها حمل ثقيل على من حولها.

كانت تعلم بأن عالمها الذي خلقته سوف ينتهي فور رحيلها عن الحياة وبأنه لن يكون لها نصيب أن تدخل ذاك العالم بعد انطلاق روحها إلى العالم اللا محدود كما دخله الذين من قبلها، فلكم تمنت أن يظل العالم الذي خلقته من بعدها باقياً ولا تصبح هذه الصور مجرد “كراكيب” في منزل أحد أبنائها بعد رحيلها وبيع المنزل الخاص بالعائلة.

لم تكن درية تخشى الموت بقدر ما كانت تخشى انتهاء العالم الذي رسمته وظلت وحيدة فيه، ورغم أنها تعلم بأن المرء إذا رحل عن الحياة ترك ما ملك وراء ظهره إلا أن هاجس انتهاء العالم الذي رسمته ظل أكثر ما يؤرقها في حياتها، فكثيراً ما يحرمنا الخوف من فقدان ما نملك من أن نتمتع بما نملك.

ربما نظر أبناء درية إليها نظرة استغراب حيناً وشفقة حيناً.. ربما ظنوا أنه قد أصابها الخرف دون أن يعلموا أن عليهم سرقة بعض اللحظات من حياتهم الحالية حتى إذا طُردوا منها صنعوا عالمهم الخاص، وإذا ما ضاقت عليهم عوالمهم وجدوا بين جدران اللحظات التي سرقوها شيئاً يقاتلون على وجوده بعد أن تتبدل الأدوار.

نبذة عن الكاتب

أحمد سليمان

أحد الكتاب الشباب لمنصة كلمتنا

محرر صحفي تخرج في كلية الإعلام جامعة القاهرة

صدرت له 4 كتب
منهم ديوانا شعر باللغة العربية “بلاء عينيك أطلال”
مجموعتين قصصيتين “مواسم الموت وعيادة فقدان الذاكرة”

للتواصل :

[email protected]

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى