كاتب ومقال

الزهور الزاهية

الجلوس في حجرة المدرسين في أوقات الراحة بالنسبة للأستاذ أيمن، هو ثاني أقسى أنواع العذاب بعد بشاعة سماع أحاديث الأستاذ هناء، ناظر المدرسة وهو يتحدث عن قيمة العلم والمعلم قبل الآن بثلاثون عام..

عدد المُعلمات يفوق عدد المُعلمين بثلاث أضعاف،
كلهن من الآنسات ما عدا الأستاذة رانيا رغم أنها ليست أكبرهن سنًا، ينظر لثلاثة منهن ورابعتهم رانيا، وهو يحاول منع فمه عن الابتسام..

حقًا الزهور الزاهية سرعان ما تفقدها الغصون، والبضاعة الجيدة لا تعاني الركود، الفارق بين رانيا وباقي المدرسات، كالفرق بين شاطئ هايسيندا بالساحل الشمالي وشاطئ الزهور المجاني بمدينة فايد!..

والدته تُلح عليه كل صباح ومساء أن يجد عروس مناسبة ويهبها رؤية احفاده قبل انتهاء العمر،
بين المَدرسة وحجرة اعطاء الدروس الخصوصية الصغيرة الغارقة في الرطوبة، يقضي كل وقته، نصيحة الأم أن يتزوج من مُعلمة مثله كي تستوعب عمله وتساعده فيه..

يُحدق فيهم وصوت أمه يسيطر على عقله، أستاذة نادية تعاني من نحافة مفرطة وأعين ذابلة وتشعر برغبة في النعاس فور رؤيتها، أستاذة وفاء لا تتوقف عن قضم أظافرها ولا يتذكر يوم من أيام العمل مر دون شجار حامي الوطيس بسبب ادمانها نقل الكلام واضافة عشرات الجمل عليه من وحي خيالها..

مس نور الهادئة ذات الوجه شديد البياض لها ملامح مريحة وصوت ناعم رقيق، لكنها تملك جسد لا يعرف له تفسير،  لها خصر شديد العرض والبروز بشكل لافت للنظر بشدة، لا يمكنه أن يتزوج من امرأة لا تتوقف الأعين عن التحديق فيها واحيانًا تُشغل رغبة الظرفاء في إلقاء الافيهات الفجة الممزوجة بالمفرادات الوقحة..

كل زميلاته من المعلمات بهذا الوصف البائس، يحملن عيوب تجعل رغبته في الزواج تتراجع وتضاءل، والأهم تجعل رغبته في علاقة بين رجل وامرأة في حجرة مُغلقة، تتساوى مع رغبته في تذكير ساعي المَدرسة أن يضع له النعناع الأخضر في كوب الشاي..

البحث عن زوجة بين جدران المدرسة هو قمة العبث واحدى محاولاته الكاذبة لإرضاء والدته العجوز، لو أنه إلتحق بالمدرسة قبل زواج الأستاذة رانيا، بلا شك كانت هى زوجته الآن، وجه مستدير وأعين عسلية وشفاه حلوة عند صمتها واحلى لو تحدثت وتراقصت أمام أسنانها البيضاء النظيفة..

صوت الأستاذ جعفري يخرجه من شروده ويُعيده لواقعه الخالي من عروس تصلح للزواج، رجل بغيض سليط اللسان وصوته مزعج بشدة يشبه صوت خنزير عجوز، دخل عليهم بإعصار غاضب وسيل من العبارات الفجة وهو يسب ويلعن الناظر والحاج منصور مالك المدرسة..

هم أيمن بمغادرة الحجرة قبل أن توقفه أستاذة وفاء وهى تدفعه دون ارادته وتطلب من تهدئة زميلهم الثائر، وفاء المزعجة الفضولية إن لم ترتكب المصائب، دفعت غيرها إليها في غمضة عين، شعر بالإحراج وتورط في مواسة جعفري ومحاولة كاذبة لتهدئته واضطر لسماع صوته البغيض رغمًا عنه وهو يشكو إليهم سوء تقدير الناظر وصاحب المدرسة له..

جاء لهم بشقيقة الصغرى لتلحق بالعمل معهم، ظن أن أقدميته ومكانته ستجعلها تلتحق بالعمل في لمح البصر، لكن الناظر فاجئه باصراره على اختبارها للتأكد من صلاحيتها للعمل، أيمن يستمع إليه بنصف عقله، والنصف الأخر يهتف به ويحثه على أن يُمسك بدباسة الورق الضخمة ويهوى بها على فك الرجل يحطمه ويريح الدنيا ببشرها وحيواناتها وحتى ميكروباتها الغير مرئية من بشاعة صوته..

يضع يد على كتف الرجل والأخرى يسند بها على المنضدة وهو يقاوم الامساك بالدباسة، وسط صراعه الداخلي تحت نعيق الأستاذ جعفري، لمح بطرف عينيه هالة من النور تظهر من خلف ظهره، فتاة ممشوقة القوام بشعر أسود فاحم متطاير حول وجه يفوق وجوه عارضات أغلفة مجلات الموضة جمالًا، تقترب منهم وتبتسم وابتسامتها تُغيّر ملامح أيمن وتبدلها من التجهم والضيق لابتسامة عذبة أرق بأضعاف من ابتسامة الموناليزا..

الفتاة صاحبة الوجه المضئ هى شقيقة جعفري الذي صمت وهو ينظر إليها وبعد احتواء الحجرة لنعيقه، تصدح بعذوبة صوتها، الخروج ترقص من ثغرها كأنها مصحوبة بلحن عجيب من عزف الكمانجات والجيتار الاسباني، ثلاث جمل جعلوا جعفري يهدأ بعد أن أكدت له أن صاحب المدرسة وقع ورق إلتحاقها بالعمل..

دقيقتان وغادرت وأيمن يمسك بالدباسة ولا يتذكر متى رفعها وضمها لصدره وهو متجمد كالتمثال يُحدق في زميلتهم الجديدة، فاق من نشوة رؤيتها وجلس بجوار جعفري وإبتسم له بتودد لأول مرة في حياته وهو يسأله ببالغ كرم واحتفاء،
– تشرب عصير؟

جعفري يتفحصه بقلق وريبة، لم يعتاد منه على حديث من هذا النوع من قبل، لا يعرف أن السر يكمن في القاعدة بالغة الصحة، الزهور الزاهية سرعان ما تفقدها الغصون.

بقلم
أحمد عبد العزيز صالح

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى