“الحب أعمى يقوده الجنون” هذه هي العبارة الشهيرة التي تقال دائما عن الحب، والتي يفسرها الجميع كل حسب أهوائه، فمنهم من يرفعون عنه القيود فيسير بلا قوانين تحكمه، أو أن يفعل المرء الرذائل بإسمه مرددا ومعللا ” الحب أعمى”.
إن أصل تلك العبارة يعود إلى إحدى الأساطير القديمة التي تظهر خيال الإنسان القديم الخصب، ففي تلك الأسطورة يتخيل الإنسان أن جميع المشاعر كانت تعيش على الأرض – وذلك قبل وجود البشر- فابتكر الإبداع لعبة للتسلية وهي أن يغمض أحدهم عيناه ويبدأ في العد بينما يختبئ الباقين، وعندما يصل في العد إلى مائة يفتح عيناه ويبدأ بالبحث عنهم، وهنا صاح الجنون طالبا البدء، وبالفعل راحت المشاعر تختبئ ماعدا الحب الذي قفز إلى شجرة الورد في اللحظات الأخيرة، ثم راح الجنون يخرجهم من مخبأهم واحدا تلو الآخر ولم يبقى إلا الحب الذي لم يعثر عليه.
وهنا يخبره الحقد عن مكانه، فيمسك الجنون بعصا خشبية ويضرب شجرة الورد حتى يسمع أنين صادر منها ليخرج بعده الحب وهو واضع كفيه على وجهه فيعلم الجنون أنه أصاب عيناه وأصبح أعمى، عندئذ يعتذر الجنون للحب ويحاول التكفير عن ذنبه، فيطلب منه الحب أن يقوده مدى الحياة.
إن الحب معنى نبيل، وشعور طيب خلقه الله ليكون لحامله خيرا لا شرا، ومن الدلالات على ذلك ما جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، رجلين تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، وقيل جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسأله متى الساعة؟ فقال له الرسول: ماذا أعددت لها؟ فقال: حب الله ورسوله، فقال له الرسول: أنت مع من أحببت، كما أنه عندما سأل الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم عن أحب الناس إليه قال: “عائشة” قالوا: “ثم من؟” فقال: “أبيها”.
كما ذكر حب الله لعباده، وحبهم لله في القرآن في أكثر من آية، كقول الله عز وجل: ” إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ”، وقوله تعالى: ” إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ”، وقوله أيضا: ” قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” وغيرها الكثير.
فالحب بين أفراد الأسرة الواحدة هو الضمان الأمثل لترابطها، والحب بين الأهل والجيران والأصدقاء يضمن ترابط المجتمع، لأن الحب الحقيقي لا يتبعه أذى، بل يتبعه دائما رفق ولين، وقد يبذل المرء الجهد من أجل سعادة من يحب، دون أي اكتراث لألم أو شقاء، كحب الأم لأبنائها، فذلك حب فطري أساسه الإيثار والتضحية.
إن الحب نوعان: حب فطري، وحب مكتسب، فذلك الفطري الذي ينشأ داخل الإنسان منذ ولادته، فتجد الطفل يحب والديه وأخواته، قد تجده أيضا يحب هذا اللون، أو تلك اللعبة، أو سماع ذلك الصوت، ويبقى الحب الفطري ويستمر بداخله، فيحب الطبيعة، والورود، والبحر، أو يحب الحيوانات والطيور، ثم حب الآباء والأمهات لأبنائهم، ثم حب الأجداد لأحفادهم.
أما الحب المكتسب فيدركه الإنسان بعد فهم ووعي، فيحب شخص بعينه فيبادله الحب ويصبحان صديقين، فيكون ذلك الحب مبنيا على أسس معينة، كالأخلاق، والروح الطيبة الجميلة، وتلك الأسس هي التي يبنى عليها الحب بين الرجل والمرأة، فذلك الحب لابد له من أسس وقوانين تحكمه، بداية لابد أن يكون الحب حبا للروح قبل الشكل، فذلك يضمن بقائه واستمراريته، وفي حال أحب رجل امرأة ولم تبادله ذلك الحب فلابد أن ينسحب ويتقبل ذلك وينسحب برقي دون تصرفات هوجاء تتنافى مع الحب والأخلاق، والعكس كذلك.
إن الحب تضحية لا انتقام، إيثار لا أثرة، عالم تحكمه القوانين والأخلاقيات، ليس بعالم عشوائي ترتكب بإسمه الجرائم، فهذا المعنى الراقي للحب لابد من إبرازه وتوضيحه، فقد انتشرت معاني الحب تظهره برذيلة وآفة تدمر الأفراد وخاصة البنات، والمجتمع، فذلك يظهر جليا في بعض القصص والروايات التي أقحمت على الروايات الرومانسية، فمثل هذه القصص تصور الحب في أبشع صورة، ففيها الحب ما هو إلا رذيلة، وخبث، وقتل، واغتصاب، وضرب، وتعذيب، وإهانة، وانحطاط أخلاقي، وظلم، وقهر، وتعذيب، وإذلال ، وللأسف الشديد فهي موجهه للمراهقين، وأحيانا يكتبونها بأنفسهم، ونعجب عندما نرى شابا يقتل فتاة رفضت حبه، ثم يحذو حذوه عدد من الشباب، أين الرقيب؟! أين الضمير؟! لماذا لا تصحح المفاهيم وتنضح المعاني؟! إن الحب لا يعني أن يفعل المرء ما يحلو له، بل الحب مقيد بقوانين لابد أن يحترمها الجميع، الحب ليس بأعمى يقوده الجنون، بل هو مبصر يقوده العقل والقلب معا، ليصل إلى سعادة، وترابط، ورقي أخلاقي.