كاتب ومقال

إبداعات كلمتنا| “بنت الدقاق”

ارتفع صوت الزغاريد مبهجًا من بيت حمودة الدقاق قبل صلاة المغرب بدقائق، لم تستطع نساء الحارة كبح فضولهم فهرولوا جميعهم عن بكرة أبيهم قاصدين بيت دقاق النحاس لمعرفة سبب الزغاريد، استقبلتهم عنبة زوجة حمودة برشقات متتالية من الملح الخشن وهى مستمرة في الزغردة ولسانها يتراقص عشرات المرات بين شفتيها كبهلوان الميدان في الأعياد..

محروس ابن موافي صاحب وكالة العطارة تقدم لخطبة فلة بنت دقاق النحاس، محروس شاب جميل الطلة ومعروف لأهل الحارة كلهم بوسامته والأهم بثراءه، لم ينجب موافي ذكور غيره، فقط هو وخمس بنات غيره..

نساء الحارة بعد أن إمتلئت رؤسهم وملابسهم بملح عنبة، شاركوها اطلاق الزغاريد وهم يكتمون غيظهم من حظ فلة البمب، ستتزوج وريث العطار الوحيد وترتدي الذهب والحرير، فرحة حمودة منقطعة النظير وتملأ وجهه لفوزه بنسب موافي العطار المعروف بغروره وزهوه المستمر بثروته ووجاهته في الحارة وحتى في الحارات المجاورة..

أرسل حمودة أحد أبناءه الصغار لشراء الحلوى وقام بإعطاءها لكل اطفال الحارة بسعادة واضحة جلية، فقط في غرفة في أخر بيت الدقاق، جلست فلة منزوية شاخصة البصر شاردة بوجوم، خبر خطبتها لإبن العطار وقع عليها كالصاعقة..

صوت الزغاريد أبشع من ضربات كرباج سوداني فوق جسدها،كيف تتصرف وماذا تفعل وأين طريق النجاة، فلة صاحب الوجه الأجمل في الحي كله وليست الحارة فقط واقعة في غرام عامر صبي والدها، دقاق نحاس فقير لا يملك غير قوة ساعده ورضا حمودة عليه..

عقلها يقاوم الانفجار وأعينها العسلية تكافح لمنع سقوط دموعها، لماذا فعلت يا ابن العطار وطلبتني للزواج؟!، ما لك ببنت الدقاق؟!، بنت الدقاق تتزوج من دقاق نحاس مثل أبيه وليس ابن عطار تفوح من ملابسه رائحة التوابل والبخور..

في محل النحاس جلس عامر مكوم الجسد منكسًا رأسه بين ركبتيه يشعر بخيبة أمل تفوق احتمال أشد الرجال صبر ورضا بالقضاء والقدر، فلة التي كان يحملها وهى إبنة ثلاث أعوام فوق كتفه ويطوف بها الحارة ليجعلها تضحك رغم أنه لم يتجاوز العاشرة من عمره، تضيع من يده أمام بصره وعجزه وقلة حيلته..

كان ينتظر اتمام جمع مهر وفلة وبعدها يطلب يدها من معلمه وولي نعمته، لكن خطوة محروس ابن العطار كانت أسبق وأوسع، كلمات باطه مجذوب الحارة ترن في رأسه، “ايد الفقير ما تطولش الحرير”..

أعين عامر أكثر رحمة من أعين فلة، ذرفت دموع الحسرة والقهر فوق وجنتيه وهو يرتجف بلوعة لفقدان حب العمر، امتلأ المقهى بعبارات وهتافات التهنئة والمباركة فور عبور محروس بابها، بلا شك ستنعم الحارة بليلة عرس لا مثيل لها..

موافي معروف عنه الكرم والسخاء، سيذبح ثلاث عجول على الأقل وسيأتي بالعوالم وتسهر الحارة حتى الصباح، أولى البشارات كانت من صنع محروس نفسه وهو يطلب من عكاشة صبي القهوة ألا يأخذ من أحد الحساب، الكل معزوم على شرف ابن العطار وارث وكالة العطار في المستقبل..

جلس محروس منفوخ الصدر بزهو وهو يفرك شاربه الرفيع فوق فمه ويمني نفسه بسعادة لا تنتهي بزواجه من فلة، كان سيتزوج إبنة ناظر الحي المجاور، لولا أن سمع الفتيات في الوكالة يتحدثون عن فلة وأنها شديدة الحسن والجمال لدرجة أن عنبة أمها لا تجعلها تخرج من الدار خوفًا من نظرات الحسد المعروف بها نساء الحارة..

كعادته منذ صغره ظل يلف ويدور أيام وأيام حتى وجد حيلة بعد نصيحة أحد أصدقاء جلسته على المقهى وأعطى حمودة كمية كبيرة من حلل النحاس وطلب منه دقها وتلميعها، صفقة كبيرة سيجني حمودة مبلغ محترم من وراءها، ومحروس تعمد أن يذهب له بلا نقود ويعده أن يمر عليه في بيته لدفع الحساب..

جلس بصحن البيت ونجح في أن يلمح فلة، فارعة الطول فاتنة العود ووجها مضئ بفضل بياض بشرتها، ضاعف له الأجرة وحمودة يكاد يطير من الفرحة ويهتف به أنه كريم مثل والده وأكثر، ليلتان وكان موافي يحدث حمودة ويطلب يد فلة، ومن غير محروس يستحق الفوز بجمال فلة بنت دقاق النحاس!

قبل الفجر بساعة تسللت فلة لسطح البيت نحو السور الخلفي تنتظر عامر، مكانهم المعتاد وميعادهم المقدس كل ليلة لرؤية بعضهم البعض والتمتع بالمناجاة حتى قبل الشروق بقليل، فور رؤيته خانتها عيناها العاصية الدمع طوال اليوم وانفجرت في البكاء كالأطفال، السور بينهم مرتفع، لكنه لم يمنعها من وضع ذراعيها حول رقبته وهى مستمرة في البكاء وهو يربت عليها بعطف بالغ وحنان وعقل مشوش عاجز ولسان عاجز عن الكلام..

توسلت له كما كانت تفعل في صغرها وهى ترجوه أن يجد منفذ لهم وحل ينقذها من الزواج من ابن العطار، بنت الدقاق واقعة في عشق دقاق النحاس، اختلط الدمع على وجنتيهم وقبل ظهر يدها وهو يقسم لها ألا يتركها مهما كلفه الأمر، هل يقتل عامر؟ أم يهرب بصحبة فلة ويتركوا الحارة بلا رجعة..

أيام وهو يفكر ويبحث عن الحل حتى لم يتبقى على العرس غير ليلة واحدة، ليلة أخيرة وبعدها ستصبح فلة وسط عشرات الفتيات والنساء حتى يمسك بيدها محروس وتركب بجواره في الحنطور في الطريق لبيت العطار..

حسم عامر أمره واعد كل شئ بمعاونة اقارب له في حي يبعد عن حيهم بعشرات الأحياء، سيأخذ فلة ويهربا سويًا للحي البعيد ويتزوجا وليذهب محروس ابن العطار للجحيم، انتظرها في موعدهم واخبرها بخطته وهو يحمل صرة ملابسه وطلب منها سرعة جمع ملابسها للهرب قبل أن يشعر بهم أحد..

وجلت وارتجفت وتجمدت لثوان قبل أن توقظها لمعة الحماس والعشق بأعين عامر وتهب متحمسة وهى تهز رأسها بالموافقة، عادت بخطوات حثيثة للبيت وقبل فرفتها وجدت حمودة جالسًا بعد أن فرغ من صلاة الغجر رافعًا يديه لأعلى ويدعو بصوت وجل مسموع،
– ربنا يحميكي يا فلة يا بنتي ويكتبلك الخير والهنا وافرح بيكي واشيل عيالك زي ما شيلتك

تجمدت مكانها دقيقة.. دقيقتان، ثم غادرها الحماس كله دفعة واحدة واندفعت نحو حمودة تضمه لصدرها وهى تبكي بلوعة وعقلها يصرخ ويصيح، لا يمكن أن تصنع بنفسها فضيحة حمودة وتجلب له العار وهو الطيب المعروف بين أهل الحارة بحلو لسانه وحسن اخلاقه..

قبلت رأسه ويده وهو يربت على رأسها ويحركها من أعلى كما كان يفعل وهى صغيرة عندما يصيبها مرض أو داء، يرقيها وهو يداعبها أن كل فتيات الحارة في الغد سيحسدوها..

ظلت بجواره تضمه وتقبل يده باجلال حتى تسربت أشعة الشمس من النافدة وارتفع صوت ضجيج الحارة معلنًا طلوع النهار وبدء اليوم الجديد.. وصوت الدق من المحل بعد أن ترك عامر السطح وانفطر قلبه وولى بيت الحداد ظهره وهو يمنع دموعه من السقوط بعد أن تيقن أنه خسر بنت الدقاق للنهاية.
-تمت-

بقلم
أحمد عبد العزيز صالح

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى