كاتب ومقال

إبداعات كلمتنا| “قلب مطاوع”

المرة الخامسة على التوالي يعود مطاوع من السوق دون أن يبيع بقرته الهزيلة، خمس أسابيع متعاقبة، يذهب للسوق ساحبًا بقرته ويعود بها كما ذهب، البقرة هزيلة يظهر عظمها وبفكها جرح عريض يرفض الإلتأم، كلما فحصها أحدهم، لوى فمه بإمتعاض وتركها دون أن ينبث ببنت شفه..

رغم عرضها للبيع بثمن بخس ومغري، إلا أنه يفشل كل مرة في بيعها والحصول على بضع جنيهات يضعهم بيد الحاج منصور كمهر لثناء إبنته الأكبر، ثناء النحيفة ذات الجسد الهزيل مثل بقرته تنتظره كل أسبوع فوق سطح الدار مترقبة بقلق ويخيب أملها كلما رآت بقرته تتبعه بضعف ووهن..

المنافسة قوية ومحتدة بين مطاوع الفقير الذي لا يملك غير داره الصغير وبقرته الهزيلة وغرام قابع بين ضلوعه منذ صباه، وبين فتوح خفير شيخ البلد الذي يملك نصف فدان ووظيفة ميري وبندقية فوق كتفه، فتوح لا يترك مساء دون أن يعاود الإلحاح على الحاج منصور عله يفعلها ويُعلن رفضه زواج مطاوع من إبنته ويقبل زواجها من الخفير صاحب الجسد العريض والقامة المرتفعة..

ثناء تقف فوق سطح الدار عند رؤيتها من بعيد تظن أنها مجرد جلباب مفرود فوق سور السطح من شدة نحافتها، بشرة شديدة البياض ذاتها شحوب وضعف، وبرغم ذلك لا تملك عند رؤيتها إلا أن تُسبح بحمد الخالق من شدة جمال ورقة ملامحها..

أحاديث ممتدة بينها وبين مطاوع دون حروف أو كلمات، فقط يربط بقرته بحوار جدار الدار ويستند عليه وهو مُقرفص وينطر لها وتنظر له ويتحدثوا بالنظرات، تعاتبه، تُحمسه..

تكاد تقفز من فوق السطح وهى تصرخ فيه بلوعة أن يفعل أي شئ ويبيع البقرة ويضع ثمنها بيد الحاج منصور وتنتقل من سطح دارهم لدار مطاوع الضيقة، لا يمكنها أن تقبل الزواج من فتوح صاحب الشارب الضخم الذي يخفي كل فمه..

كلما مر من أمام دارهم وشاهدها وداعب شنبه بسماجة، شعرت برغبة عارمة في القئ وإنقبض صدرها وإرتجف جسدها بفزع، لا يمكنها أن تتزوج من شخص غير مطاوع، مطاوع الطيب البشوش رقيق القلب رفيق الصغر وونيس صباها..

فتحت عيناها على الدنيا ووجدته أمامها يحمل بقلبه لها غرام لا يغفل عنه أحد، يوم أن ماتت شقيقته الصغرى بسبب الكوليرا، ظل يبكي وينتحب ولم تستطع منع نفسها من الجلوس بجواره تهدئه وهى تشاركه البكاء على رحيل رفيقة دربها ولعبها وسمرها، تلقت علقة ساخنة من الحاج منصور يومها، لكنها لم تندم أنها ظلت بجوار مطاوع لساعات تربت على قلبه وتشاركه البكاء..

مطاوع قابع أمام جدار الدار غارق في يأسه ينظر للبقرة في حيرة ويود لو أنه يستطيع الحديث معها، لو أنها سمعته وعرفت قصته وما بينه وبين ثناء، لطاوعته ودأبت على الأكل وتخلصت من نحافتها وجلبت له مهر ثناء..

الست صبحية جارته العجوز صاحبة الخبرة، تجلب له صحن عدس من صُنع يدها وتجلس بحواره وهى تتنهد بشفقة من فرط تأثرها بحالة ابن جارتها اليتيم، تمسح حواف فمها بأصابعها ثم تنهض لداخل داره وتجلب طشت كبير ممتلئ بالماء وتهرول نحو دارها وتعود وبين يدها صحن ملح خشن، تخلط الملح بالماء وتضعه أمام البقرة..

يتابعها بدهشة وهو يبدأ في استيعاب ما تفعله، خطة الباعة النصابين قبل مواسم الأضاحي، البقرة تشرب الماء المالح فيزداد شعورها بالظمأ ومن ثم بعد عدة أيام يزيد وزنها بالماء وليس باللحم، ود أن يعترض ويرفض الخديعة، لولا نظرة واحدة نحو وجه ثناء المفعم بالرجاء والأمل..

أسبوع والست صبحية كل صباح وعصرية تذهب له حاملة صحن الملح الخشن، البقرة وزنها زاد بشكل ملحوظ وانتفخ بطنها وبدت سمينة على غير طبيعتها، فتوح لا يكف عن المرور بين داره ودار الحاج منصور وهو يداعب شاربه، يحمل في كل مرة نظرتين، نظرة عشق تجاه السطح حيث تقبع ثناء، ونظرة كراهية وعداء تجاه المقرفص أمام الجدار..

مساء السبت وقبل موعد السوق بليلة، شاهد مطاوع شيخ البلد بعباءته الواسعة النظيفة وهو يطرق باب الحاج منصور بصحبة فتوح، الخفير الخبيث قرر احراج الرجل وجاء بصحبة شيخ البلد ووجاهته لمعاودة طلب الزواج من ثناء، لم ييأس أو يبحث عن عروس غيرها، وكيف يفعل وهو مثله مثل الجميع وقع بسحر جمالها الرقيق فاتن القلوب..

مرت الدقائق أبطأ من السلحفاة حتى غادر شيخ البلد بصحبة خفيره والحاج منصور يودعهم بسعادة واضحة، الرجل رغم كل شئ لا يرغب إلا في سعادة إبنته وضمان إختيار زوج مناسب لها..

تقدم نحو مطاوع وأخبره بصوت خالي من أي مودة، أنها فرصته الأخيرة في الغد بعد انتهاء موعد السوق، إما أن يعود بمهر ثناء أو ينسى الوعد بينهم ويحله منه ويتركه يختار لها الزوج المناسب، وليس هناك أفضل من خفير شيخ البلد صاحب البندقية والطين..

الست صبيحة بعد الفجر تقوم بغسل جسد البقرة بعناية فائقة وهى تقرأ المعوذتين وتدعوا لمطاوع أن ينجح في العودة بالمهر، خرج مطاوع بحماس وتصميم وهو يجر بقرته نحو السوق ومنظر فتوح وهو يداعب شاربه بسماجة لا يفارق رأسه، حيلة صبحية لم تنطلي على أحد من التجار، بمجرد فحص بقرة مطاوع تركوها دون كلام..

التوتر يتمكن من مطاوع ويبدأ جسده في الإرتجاف والوقت يمر معلنًا قرب انتهاء وقت السوق، أحدهم يقترب منه ومن بقرته بصحبة طفلة صغيرة ويقوم بفحص البقرة ويبدو عليه عدم الدراية بفحص البهائم، الصغيرة تلمس جسد البقرة بسعادة وهى تهتف بمرح أن البقرة جميلة وأنها ترغب في شراءها..

الرجل يمازح مطاوع ويخبره بطيبة أنها إبنة أخيه المتوفي وأنه يبحث لها عن بقرة ترعاها وتعيش من خيرها بما تركه لها والدها من ميراث، تحدثا عن السعر والرجل يحاول الوصول لسعر مميز ومطاوع يتحدث بشرود وتلعثم وبصره لا يفارق الصغيرة ونظرات البهجة في عيناها، اتفقا على السعر وقبل أن يضعه بيد مطاوع..

تراجع للخلف فجأه من قرصه عقرب وهو يهتف بفزع أنه عدل عن رأيه ولن يبيع البقرة، إعترت الدهشة ملامح الرجل وجمدت يده الممتدة بالنقود وإرتسم الحزن على وجه الصغيرة وهى تحضن بطن البقرة الممتلئ بالماء والملح، أمام اصرار الرجل عن معرفة سبب رفض مطاوع البيع محاولًا إغراءه بجنيهان زيادة فوق السعر..

أطرق مطاوع برأسه بخجل وهو يخبر الرجل بشجاعة أنه مخادع وأن البقرة نحيفة هزيلة وأن بطنها ممتلئ فقط بالماء المالح، إمتعض الرجل بضيق وهم بالرحيل قبل أن تُمسك الصغيرة بحلبابه بتشبث وتُلح عليه لشراء البقرة..

حاول إفهامها أنها غير مناسبة وهى تدبدب في الأرض بقدميها الصغيرة وتُصر على شراءها وأنها لن تغادر السوق بدونها، دقائق من الجدال بينه وبينها حتى طأطأ رأسه ووضع النقود بيد مطاوع الشاعر بالحرج بعد أن خصم منهم عدة جنيهات، تهلل وجه الصغيرة بالفرح وهى تلتقط الحبل من يد مطاوع وتجرها خلفها بفرحة..

ومطاوع يضع الجنيهات بملابسه ويعدو بسعادة نحو دار الحاج منصور حاملًا مهر ثناء، السعادة الأكيدة بداخله أنه لم يخدع الرجل وكشف له سر سمنة بقرته، قلب مطاوع الغارق في عشق ثناء، لم يستطع خداع الصغيرة المفتونة ببقرته، وكيف لعاشق أن يطيعه قلبه في خداع.
-تمت-

بقلم
أحمد عبد العزيز صالح

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى