كاتب ومقال

دار في خاطري| بائعة الياسمين (الجزء الأول)

ما أجمل أيام الإجازة، فهي الراحة وفيها يتجدد النشاط والحيوية، إنني شاب أحب الإجازات كثيرا، فلقد حصلت على إجازة قصيرة بأعجوبة بعد عناء وشقاء، كم أكره ذلك العمل المضني الشاق، الذي ينهك قواي دون أي فائدة -هكذا أرى- على الرغم من أن رؤسائي يرون أن ذلك العمل مهم للغاية، وإن لم يكن الأهم على الإطلاق، فهم يحاولون دائما إقناعنا بذلك، ولكن جميع محاولاتهم تبوء بالفشل، لأن رأيي ورأي زملائي لم ولن يتغير في كونه عمل ممل وسخيف، كما أن الإجازات فيه قليلة، فلا يمكنني أن استريح من عناء العمل، وأمارس هواياتي المفضلة إلا في بضع أيام قلائل كتلك التي أحصل عليها بعد عدة أشهر.

ثلاثة أيام، هي إجازتي التي حلمت بها منذ ثلاثة شهور، وقد كنت أنوي قضاءها في البيت، وبالتحديد في غرفتي، كي استريح من عناء العمل، ولكن فور وصولي إلى البيت لم أعد أشعر بأي تعب، فقد دب بجسدي المنهك نشاط لم أتوقعه، ولأنني أعيش وحيدا فقررت الذهاب إلى أحد المطاعم الفخمة لتناول وجبة دسمة ولذيذة، وبعدها أذهب إلى السينما، ولكن شعرت بأنني لا أرغب في فعل ذلك بمفردي، فاتصلت بأحد أصدقائي القدامى كنت قد اشتقت له كثيرا لنقضي سويا وقتا ممتعا.

وفي المساء عدت إلى البيت، وجلست أخطط للاستمتاع بإجازتي، فكان أول شيء أردت فعله هو الذهاب إلى معرض اللوحات الفنية الذي يقام في العاصمة منذ يومين وسيستمر لمدة أسبوع – هكذا أخبرني صديقي- وبالتأكيد لابد ألا أضيع هذه الفرصة، فأنا أحب اللوحات الفنية كثيرا، وأفضل فن الرسم على سائر الفنون، لذا فقد خصصت غرفة في بيتي لتلك اللوحات التي أقتنيها، فإنني لا أتردد في شراء أي لوحة تنال إعجابي مهما كلفتني من ثمن، لذا فقد أطلقت على هذه الغرفة اسم غرفة الكنز.

ذهبت إلى المعرض، ورحت أتأمل اللوحات الفنية التي لم تقتصر على إبداعات الفنانين الجدد وحسب، بل كان هناك لوحات قديمة لفنانين قدامى قد قرر ذويهم ممن انتقل إليهم إرثهم الفني أن يعرضوها ليقتنيها من يتذوقون هذا الفن الراقي، وبالفعل فلقد وجدت رواجا كبيرا، أما بالنسبة لي فلم تكن تعنيني إن كانت اللوحة قديمة أم حديثة، وقد رسمها فنان محترف منذ زمن بعيد أم رسمها فنان هاوي، إن ما يهمني هو صدق الصورة وجمالها، وذلك ما أبحث عنه دائما.

مرت ثلاث ساعات حتى وجدت ضالتي المنشودة، فمنذ الوهلة الأولى التي وقعت فيها عيناي على تلك اللوحة وقد شعرت بشعور غريب جعلني لا أستطيع مغادرة المكان بدونها، فمن أجلها تفاوضت مع رجل وامرأتين كانوا يودون شرائها، ولكنني فزت بها في النهاية، لقد كانت اللوحة عبارة عن بورتريه لفتاة عشرينية ذات وجه صاف جميل، وابتسامة غامضة تجذب انتباه الناظر إليها، وعينان خضراوان واسعتان تظهر فيهما السعادة، وشعر أحمر ناعم لامع وكانت غرتها تخفي جبينها، وتاج من الياسمين يكلل رأسها، وعقد من الياسمين يزين نحرها، وجزء من ثوب أبيض لا يتضح شكله.

عدت إلى البيت مبتهجا بما اقتنيت، فقد اكتفيت بتلك اللوحة اليوم، فهي بمثابة كنزي الذي عثرت عليه بعد بحث طويل، أسرعت إلى غرفة الكنز، وعلقت لوحتي في المكان المناسب لها على الجدار، ووقفت أتأملها.

ولفتت انتباهي مجددا ابتسامة الفتاة، ولكني لم أرها غامضة كما كنت أراها في المعرض، بل كانت ابتسامة رضا، فتعجبت لأمري كيف لم ألحظها هكذا؟!

غادرت الغرفة وذهبت إلى المطبخ لأبحث عن طعام، فأنا جائع ولم أتناول شيئا منذ الصباح، فلم أجد سوى الخبز، فتناولته مع كوب من الشاي، كنت أفكر في لوحتي وأنا أتناول الطعام حتى أنني لم أشعر كيف تناولت الخبز عن آخره، ومن ثم ذهبت إلى غرفة الكنز وأشعلت ضوء خافت ورحت أتأمل ابتسامتها الساحرة، فخفق قلبي، وسرت رعشة قوية في جسدي، فأشعلت ضوءا قويا، ونظرت إليها ثانية، ومن جديد يخفق قلبي ويرتجف جسدي، فلقد كانت ابتسامة الفتاة ابتسامة انتقام، أجل! انتقام، ولكن ممن تريد الانتقام؟!!

بقلم: ريم السباعي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى