دار في خاطري| بائعة الياسمين (الجزء الثاني)
ذهبت إلى غرفتي وأنا غارق في التفكير لا أجد إجابة لسؤالي المحير، فلم استطع النوم، وبعد منتصف الليل بساعتين، وبحركة لا إرادية وجدت نفسي أتجه إلى غرفة الكنز، وأرفع اللوحة عن الجدار، وآتي بها إلى غرفتي، فأعلقها على الحائط أمام الفراش، وما لبثت حتى رحت في سبات عميق.
وفي الصباح استيقظت باكرا رغم قلة نومي، فكانت أول ما رأت عيني هي تلك اللوحة، فشعرت بسعادة كبيرة تغمرني، فلقد رأيت الفتاة تنظر إلي وتحدق بي النظر، وكانت تبتسم ابتسامة حب، يا إلهي!! ما سر هذه الابتسامة المحيرة؟! فوقفت أمامها ونظرت إليها بإمعان لاكتشف أن تلك الابتسامة ما هي إلا ابتسامة سخرية.
وهنا شعرت بأني قد أصابني الجنون، فرحت أحدثها بصوت عال وأقول لها: لماذا تسخرين مني؟! لقد شعرت بأنك تحبينني قبل لحظات، ألم يكن شعوري صحيحا؟! هل تخدعينني؟! ثم تذكرت ابتسامة الانتقام التي رأيتها أمس، فصحت بها قائلا: لماذا تريدين الانتقام مني؟!! أخبريني لماذا؟! ومن ثم هدأت نفسي قليلا، فنظرت إلى عينيها فوجدتها تنظر إلي بنظرة حادة قوية جعلتني أحدق النظر فيهما.
وما هي إلا بضع دقائق حتى شعرت بشيء عجيب، فلقد كانت عينا الفتاة تتسع ببطء وتقترب مني حتى اختفت قزحيتها الخضراء ولم أعد أراها، لأجد نفسي داخل إنسان العين الذي يتوسطه نقطة بيضاء أراد بها الفنان أن تعبر عن ضوء منعكس على عينيها، فشعرت بأنني أسير بداخل نفق مظلم ولكن في نهايته نور.
وها هو النفق قد انتهى فأخرج إلى النور لأجد نفسي في أرض واسعة يتوسطها بيت صغير تحفه أشجار الياسمين، ومن بعيد لمحت طيف فتاة ترتدي ثوبا أبيضا فضفاضا، وتتطاير خصلات شعرها الأحمر على وجهها، كانت تجمع أزهار الياسمين، ثم تصنع منه باقات جميلة وتحملها بيدها ثم تعبر من خلال ستار أبيض.
ذهبت خلفها لأرى إلى أين هي ذاهبة، فوجدتها تقف حيث يجلس مجموعة من الجنود، لهم ملامح قاسية، يبدوا أنهم ليسوا من أهل تلك المدينة، فتبيع لهم الياسمين وهي تتحدث إليهم ببراءة، فتلين قسوة وجوههم فيحدثونها.
وتعود خالية الوفاض من حيث أتت وهي تبتسم ابتسامة انتقام، فألمح عيناها الخضراوان، فتركض نحوي، ولكني اكتشف أنني مخطئ، فهي لا تراني، بل هي تركض نحو ضابط بشوش، يختلف في زيه وملامحه عن هؤلاء الذين ابتاعوا الياسمين، فيبتسم إليها، فتبتسم إليه ابتسامة سعادة، ثم تحدثه ببضع كلمات، فيشرق وجهه، فتتبدل ابتسامتها إلى ابتسامة حب.
وما هي إلا لحظات حتى يسمع صوت دوي يتصاعد على إثره دخان ونار، فينظر الضابط إليها ويبتسم، فتبتسم له ابتسامة رضا.
وعندئذ لم أعد أرى شيئا فقد أصبحت الصورة مشوشة، ثم شعرت بدوار شديد، سقطت على إثره مغشيا علي، وبعد زمن ربما كان طويلا، أو ربما كان قصيرا استعدت وعيي لأجد نفسي ملقى على أرض الغرفة، فقررت الذهاب إلى المعرض لأبحث عن أحد يخبرني بقصة تلك اللوحة.
وبالفعل ذهبت في الصباح، وقابلت الشخص الذي أبحث عنه وسألته فقال: إن هذه اللوحة رسمت منذ أكثر من مائتي عام، رسمها ضابط مقدام من ضباطنا البواسل حين أحتلت أرضنا بأكملها عدا أرض الياسمين، تلك الأرض التي اختلف المؤرخون على موقعها، فبعضهم قال أنها في الشمال، بينما رجح البعض الآخر أنها في الجنوب، وكانت تلك الفتاة صاحبة اللوحة زوجة لذلك الضابط وقد كانت تساعده حيث تنقل له أخبار الأعداء وهي تبيع لهم الياسمين، لذا فقد رسمها تخليدا لذكراها وأسماها بائعة الياسمين، وقد انتشرت تلك القصة قديما بعد تحرير البلاد، وكانت بائعة الياسمين رمزا لحب الوطن لدى الفتيات الصغار.
عدت إلى البيت مسرورا من تلك القصة العجيبة التي رأيتها بعيني، فهذه اللوحة ليست مجرد رسم بل هي قصة مختصرة لحب الوطن، فهي حقا ثروة أعتز بها، فقررت أن أبقيها في غرفتي ولن أعيدها إلى غرفة الكنز.
إنتهت إجازتي ولكني وعلى غير العادة لم أشعر بضيق أو ضجر، بل شعرت باشتياق كبير للعمل، فقد أدركت قيمته، وعلمت أهميته، فقمت بتجهيز زيي الرسمي وأنا على أتم الاستعداد لأعود إلى كتيبتي وأنا فخور بأنني ضابط بين صفوف حماة الوطن، فنظرت إلى بائعة الياسمين، فوجدتها تنظر إلي، فتأملت ابتسامتها فكانت ابتسامة رضا.