كاتب ومقال

إبداعات كلمتنا| “بعد العاشرة مساءً”

رائحة بشعة كريهة جعلت كل فريق التحقيق في حالة ضيق ونفور وهم يباشرون عملهم، الجثة متعفنة بشكل كامل والفحص الأول يؤكد أن الوفاة حدثت منذ بضعة أيام، عدة بلاغات من جيران الأستاذ حامد كلها تشكو من انبعاث رائحة كريهة من شقة الرجل منذ يومين..

يعيش وحيدًا من سنوات بعيدة، وبعد أن بلغ سن المعاش وترك وظيفته كمُعلم جغرافيا وتاريخ في المرحلة الإبتدائية وهو دائم الخروج كل ليلة بعد العاشرة مساءً وقد يغيب يوم أو عدة أيام حتى يظهر من جديد، الرجل لم يكن كثير الإختلاط بأحد لكنه حظي بعلاقة طيبة بالجميع بفضل إبتسامته الدائمة وبشاشة ملامحه وحلو لسانه..

المحقق بعد نقل الجثة للمشرحة وفتح جميع النوافذ جلس يقابل الجيران، الأستاذ عاش ومات أعزب لم يتزوج على الإطلاق، جمل بسيطة مقتضبة من عدة أشخاص كلهم بملامح منزعجة وأيادي موضوعه بتقزز فوق أنوفهم..

قبل أن ينتهي المحقق من عمله، إقتحم الشقة عدة أشخاص بملامح صارمة وحادة، جاء أقارب الرجل من كل صوب واتجاه فور سماع الخبر، لم يسأل أحد منهم عن مصير الرجل، كيف مات؟، أين جثمانه؟، فقط دخلوا في صراع محتد وشجار مرتفع الصوت والحدة وكل واحد منهم يحاول حمل قطعة من الأثاث أو أحد الأجهزة الكهربائية..

المشهد رغم اعتياده للمحقق ورجاله، إلا أنه ككل مرة شعر بغصة في حلقه وإنتابته حالة من الضيق قبل أن يصيح فيهم بغضب ويأمرهم بترك كل شئ كما كان وأمر رجاله بغلق الشقة وتشميعها حتى ينتهي التحقيق وتتسلم الجهة المختصة شقة الرجل المتوفي..

لا شبهة جنائية على الإطلاق وفق التقرير النهائي للطب الشرعي، سكتة قلبية وهبوط حاد في الدورة الدموية، فقط يٌلحق المحقق التقرير بالمحضر ويتم غلقه، سمة شئ واحد أخير..

أحدهم طلب مقابلة المحقق بخصوص الأستاذ حامد،
رجل نحيف قصير القامة متجهم الملامح، جلس أمام المحقق بهدوء تان ووجه شاحب حزين وهو يعرفه بنفسه، الأستاذ جمال صديق الأستاذ حامد المُقرب، تحدث الرجل بصوت به رجفة وحزن بالغ وكأنه يخرج من أعماقه..

جاء يحمل رغبة لا تراجع عنها للإبلاغ عن قاتلة صديقه ورفيق سنوات عمره، قضب المحقق حاجبيه بدهشة وهو يؤكد للرجل أن صديقه توفى وفاة طبيعية لا شبهة جنائية حولها بأي شكل، تخلى الرجل عن هدوءه فجأة وهب واقفًا وهو يصيح بغضب،
– لا.. لا يمت فقط
لقد قتلته سمية، قتله عن عمد وانعدام ضمير

ابتلع المحقق ريقه وأشعل سيجارة وطلب الشرح والتوضيح من الرجل الغاضب الحزين،
– من سمية وكيف ولماذا قتلت حامد وأين هو سلاح الجريمة؟
ترك جمال جسده يسقط فوق مقعده من جديد وتحدث وهو شاخص نحو الفراغ، المحقق والكاتب يسمعون الرجل وهو يتبادلون نظرات الشفقة على الرجل وقصة صديقه،
– قتلته سمية بالخذلان

خذلت الرجل وأدمت قلبه بلا ذرة شفقة أو رحمة،
سيجارة جديدة تشتعل من السيجارة السابقة والمحقق يسمع بانصات وحالة واضحة من الكآبة، سمية حب حامد الأول والأخير، أحبها منذ أن كانت فتاة يافعة بوجه ملاك، التحقت بالعمل معه بنفس المدرسة، وقع في عشقها من أول لحظة، حب محسوم بالفشل وعدم الإفصاح، ظهرت في حياته واصبعها مزين بخاتم الخطوبة، لم يكن مراهق أو مندفع المشاعر، لكنه العشق وسخريته، لا أحد يعرف متى يحب ولماذا أحب.. فقط يجد نفسه غارقًا في العشق ولا وجود ليابسة أو قارب نجاة..

كتم مشاعره بين ضلوعه وعاش راهبًا في محراب عشق سمية الأخرس، سنوات وسنوات، تزوجت وأنجبت وكبرت إبنتها الكبرى وأنجبت هى الأخرى ومازال حامد لا يفعل شئ غير المضي بلا أمل في حبها، حبه لها كان عالمه الخاص المُغلق عليه وعلى قلبه،ليل نهار لا يفعل شئ سوى متابعة أخبارها وتقديم المساعدة لها بعدة طرق دون علمها، كم مرة ذهب فيها لدفع فاتورة هاتف منزلها دون علمها..

يفعل ذلك وهو يشعر بسعادة تفوق سعادة طفل صغير بالحصول على لعبته المفضلة، لا تشكو هى وزوجها من ضيق ذات اليد، لكنه يفعل ذلك ويشعر كأنه ابتاع لها قطعة من السماء، يعود ويجلس في شرفة منزله ويظل يتأمل الفاتورة بسعادة فائقة هى والصورة الوحيدة التي يملكها لها..

صورة قديمة متهالكة الحواف لكل معلمين المدرسة، وجه سمية لا يتعدى ملي واحد من مساحة الصورة، ومع ذلك يحدق فيها طوال الوقت ويرى ملامحها بدقة شديدة كأنها صورة عملاقة للافتة مُعلقة في أحد الميادين، رحل زوجها اثر حادث منذ عام..

رغم فجاعة الأمر إلا أن حامد طار وقفز من الفرحة قبل أن يجلس القرفصاء ويبكي كالأطفال وهو لا يُصدق أن الحاجز بينه وبين حب عمره زال وانتهى، نصحه جمال ألا يفاتحها في شئ قبل مرور عام، عام كامل مدة مناسبة أن يذهب لها ويطلب الزواج منها، بالتأكيد ستوافق..

الأثنان على المعاش وهى مثله بعد زواج أولادها الثلاثة تعيش وحيدة في شقتها، منذ رحيل زوجها وهو كل يوم في أوقات متفرقة يذهب نحو بيتها ولا يفعل شئ غير التحديق في نافذة شقتها المُغلقة باستمرار..

ثلاث أو أربع مرات في اليوم الواحد حتى حدثت المعجزة ذات مرة بعد العاشرة مساءًا ووجد النافذة تُفتح وتطل منها سمية وهى تلوح بيدها لحفيدتها الصغيرة، كمن وجد مفتاح الجنة، أصبحت كل حياته ملخصة في الذهاب لبيتها في نفس الميعاد كل ليلة،
موعد مقدس لا يفوته لأي سبب رغم أن الصدفة لم تتكرر ولم تطل من نافذتها وتُهديه رؤيتها مرة أخرى من بعيد..

يخرج ويطوف حول البيت وكل بضعة أيام يستقل بعدها القطار نحو الأسكندرية، يبت ليلة أو ليلتان في نفس الفندق كل مرة، إنه نفس الفندق المتواضع الذي حظي ذات مرة بقضاء أسبوع كامل فيه برفقة سمية وبعض زملائهم أثناء إحدى الدورات الصيفية، للفندق وقع السحر على قلبه، كلما شعر بالحنين ذهب لهناك وإسترجع ذكرياته..

أسبوع كامل كان يراها كل يوم وجمعته بعض الأحاديث معها ومع زملائهم، مر العام أطول من الخمسة وثلاثون عامًا وهو يحمل عشقه الأخرس بين ضلوعه في خشوع، تزين وإرتدى حلة جديدة وتعطر وحمل باقة زهور وذهب لشقتها وهو يرتجف من الخجل والخوف، جلس أمامها بجبين مندى بالعرق رغم برودة الجو وهو يطلب منها الزواج..

أجابته بضحكة مجلجلة ساخرة وهى تنهض وتتجه نحو باب الشقة وتتهمه بالجنون وقلة الإحترام وأنها زوجة وفية لزوجها الراحل، تخيل كل السيناريوهات ولكنه أبدًا لم يتخيل لحظة واحدة أن ترده بكل هذه الخشونة وقلة الذوق، ظن أن عشقه لها عدوى بلا شك إنتقلت لها من فرط ما يحمله بقلبه من مشاعر نحوها..

خيال عشقه أعمى عقله عن احتمال أنها كانت محبة لزوجها طوال السنوات الماضية، لم يكن يغار منه، لم يكن يعترف بوجوده من الأساس، فقط كان يعتبره حاجز بينه وبينها ولابد أن يأتي يوم ويصبح لا وجود له، لم يكفها الرفض وقتل أمله، بل زادت بأن أهانته وطردته من بيتها، ليت زوجها لم يمت وليته عاش كما عاش قبل هذا اليوم، سنوات وسنوات مجرد راهب في محراب عشقها..

انفجر جمال في البكاء وهو يصيح بغضب أن سمية قتلت رفيق عمره، الرجل لم يتحمل ردة فعلها وعاد وسقط جسده فوق أول مقعد يقابله حتى انبعثت رائحة الموت من جسده، تحرك المحقق نحو جمال وربت على كتفه وفتش عن كلمات رثاء مناسبة ولم يجد..

فقط زفر بشفقة وهو يحدث كاتبه،
– أمرنا نحن وكيل النائب العام بغلق المحضر والتصريح بدفن الجثة بعد أن تأكدنا أن الرجل مات دون شبهة جنائية وحيدًا في شقته بعد العاشرة مساءً.

بقلم
أحمد عبد العزيز صالح

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى