في غرة شهر المحرم تتبارى الكثير من المؤسسات الدينية في الاحتفاء بالعام الهجري الجديد، احتفاء بالرحلة الدينية الأسمى للنبي محمد، صلى الله عليه وسلم ولكن المفأجاة أنه -على خلاف الشائع بين الكثيرين- فإن الهجرة لم تكن في شهر المحرم، ولكن في شهر ربيع الأول، وبدأ النبي في دراسة قرار الهجرة بعد أن رأى رؤيا أنه يمضي بأصحابه إلى مكان به نخيل كثير بين حَرتين، وهو ما فسره على أنه المدينة.
في السابع والعشرين من شهر صفر، بدأت الرحلة المباركة، حيث بات النبي وصاحبه أبو بكر لثلاثة أيام في غار ثور، في رحلة محفوفة بالمخاطر، ولكنه اليقين على أن صاحب هذه الرسالة لن يضيع صاحبها. في مشهد يعلمنا الكثير من الدروس، فهذا نبي الإسلام والذي بعثه اللي في عمر 40 عاما، ليمكث في مكة 13 عاما، وينطلق بعدها إلى المدينة لتظل دعوته 10 سنوات.
من يطالع هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- سيجد الكثير من العلم الرباني في كل خطوة، فهذه مَهمة التفويض واضحة جلية، حين استخلف عليا بن أبي طالب في فراشه، ليرد للناس الأمانات، وقبل ذلك أذن النبي لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة في بلاد أصيحمة النجاشي، رحمه الله، وهذا من الفقه السياسي، أن تعرف من حولك من بلاد وإلى أين تتجه بناظريك، وثانيا حينما ذهب إلى الطائف داعيا إلى الله، وأخيرا بالهجرة إلى المدينة المنورة التي ابتهجت بقدومه، صلى الله عليه وسلم، حتى غنى أهلها: أشرق البدر علينا.. من ثنيات الوداع.
في هذه الرحلة يستعين النبي صلى الله عليه وسلم بعامر بن فهيرة وهو راع للغنم ليطمس آثاره وسيدنا أبي بكر، رضي الله عنه، ويأتي دور عامر بن فهيرة، وهو وقتها غير مسلم، ليكون دليلا في شعاب الجبال، يطرق بهم طرقا غير معروفة، هربا من عيون المترصدين من أهل مكة، بعد أن وعدهم سادتها بمئة ناقة لمن يدل على محمد وصاحبه.
في هذه الرحلة النورانية تظهر واحدة من دلائل النبوة، حينما يطلب نبي الله من سيدنا أنس بن مالك، أن يرجع ويكتم خبرهم، قائلا: “كيف بك إذا لبست سواري كسري؟” في معجزة لا يمكن المرور عليها دون تأمل، وقتها كان ملك الفرس ومملكته من أعظم الممالك قوةً وبطشاً آنذاك، يقول هذا وهو رجلٌ مطارد ليس معه شيء، ولتقريب الصورة فالأمر أشبه بأن تقول لرجل أميّ يعيش الآن في البادية إنه سيصبح رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، أمر لا يقبله المنطق، ولكن في خلافة الفاروق عمرَ بن الخطاب يفتح الله بلاد فارس، ويدعو عمر سيدنا سراقة بن مالك ويلبسه سواري كسرى وتاجه ويرفع صوته في الناس: “الحمد لله الذي نزعها كسرى بن هرمز، وألبسها سراقة بن مالك، أعرابي من بني مُدلج”
ما زال البعض ينظر إلى حديثين في صحيح البخاري ومسلم، ويتوهم التعارض بينهما، الأول: “عن أَنَس بْن مَالِكٍ، … أن النبي صلى الله عليه وسلم، بَعَثَهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ، وَتَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ سَنَةً وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”. متفق عليه
والحديث الثاني، عن ابن عباس: ” بُعِثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَرْبَعِينَ سَنَةً ، فَمَكُثَ بِمَكَّةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً ، يُوحَى إِلَيْهِ ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ ، فَهَاجَرَ عَشْرَ سِنِينَ ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ”.. متفق عليه
ولكن هناك الكثير من أوجه الجمع بين الحديثين، منها أن أنس بن مالك، اكتفى بذكر العشرة، ولم يعتن بنقل الكسر الزائد، وهي طريقة للعرب، حيث كانت أمة أمية، وَأَخْرَجَ مُسْلِم مِنْ وَجْه آخَر عَنْ أَنَس ” أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاشَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ ” وَهُوَ مُوَافِق لِحَدِيثِ عَائِشَة، وَجَمَعَ غَيْره بِإِلْغَاءِ الْكَسْر “. انتهى من ” فتح الباري ” (6/570)، كذا قال النووي في شرح مسلم ، وكذلك ابن كثير في البداية والنهاية.
والبعض الآخر يسأل: “إن كانت الهجرة في ربيع الأول، فلماذا يبدأ التأريخ في شهر المحرم؟
المشهور أن التأريخ كان في خلافة عمر. والصحابة عند التأريخ السنوي – بعد الاختلاف – اتفقوا على أن تكون البداية من عام الهجرة ليكون أول التأريخ، واختلفوا حول أي شهر تبدأ به السنة، فـقال بعضهم: يكون ربيع الأول أول السنة؛ لأنه وقت الهجرة. وقال بعضهم: ابدؤوا برمضان. وقال بعضهم: ابدؤوا برجب. وقال بعضهم: أرِّخوا مِن المحرم؛ فإنه شهر حرام، وهو أول السنة، ومنصرف الناس من الحج. وفى بعض الروايات: الذي أشار بذلك عمر، وفى بعضها علىٌّ، وفى بعضها عثمان، وقد جمع الحافظ ابن حجر بين الروايات بأن الثلاثة أشاروا بالمحرم؛ ليكون بداية العام، حيث قال الحافظ ابن حجر: «ابتداء العزم على الهجرة كان في المحرم»
حينما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، أول ما فعله أن بنى مسجد “قباء” كما آخى بين المهاجرين والأنصار، في رسالة تؤكد أهمية دور المسجد في بناء الأجيال وتعليمهم، ذلك الدور الذي بدأنا نفقده شيئا فشيئا، فأصبحت شوارعنا مليئة بالسباب والشتائم، وتخلف ركبنا عن العلم في الكثير من المجالات. رسالة الأخوة والمحبة التي تجعل من المجتمع مترابطًا ومتماسكًا دون نبرات العنصرية والتفرقة، معاهدة من النبي ليهود المدينة ليؤكد حقوق المواطنة والتعايش، قبل 1400 عاما، في خطوة سبق الإسلام الكثير من مواثيق حقوق الإنسان التي باتت حبرا على الورق، وكشفتها الأزمة الإنسانية في فلسطين المحتلة، على سبيل المثال خير دليل.
ما تزال دروس الهجرة النبوية تحتاج إلى الكثير والكثير من الوقفات، وتبقى الرحلة في كل يوم، مع ما قاله سيد البرية -عليه الصلاة والسلام-: “لا هجرة بعد الفتح”.. أي فتح مكة، وفي الحديث: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه”، ليبقى كل صباح فرصة لنا جميعا لنهجر ما نهانا الله عنه ونبدأ صفحة جديدة عنوانها: “يوم جديد لن يعود”. فاجعل هذا دائما نصب عينيك.. واحرص على قراءة سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم، لتتعلم منها.