كاتب ومقال

ثلاث رسائل للحب ما قالته ساكورا| الرسالة الرابعة

الرسالة الرابعة
يوم القهر / شهر الألم / سنة الحب 2016/10/17

إليك بعد التحية والسلام،
بعد توقف دام عدة أيام، اكتشفت أننا الكتاب والمفكرين لا نستطيع أن نتوقف لو للحظات عن العمل؛ لذلك قررت النزول في يوم إجازتي الذي فرضته على الجامعة في منتصف الأسبوع على كره مني، فلا أنا بهذا أستطيع أن أنجز عملاً متصلاً في شغلي الإبداعي والبحثي، ولا أنا أستطيع أن أكمل عملي مع طلابي وتحدث قطيعة معرفية لهم مع المادة؛ لأنهم ينشغلون بمواد أخرى.

لا بأس، قررت أن أهتم بنفسي قليلاً، فأنا لا أهتم بالطعام أبداً، وثلاجتي خاوية على عروشها، وليس لدي القدرة على الطبخ وأنا في حالة انهيار دائم لعدم وضوح الرؤية معك. فأنت تعشقني وتكرهني في ذات الوقت، تريد أن تتزوجني وتبتعد بنفس القدر. لذلك قررت أن أنزل إلى “لاتينو”، هو واحد من الكافيهات المفتوحة جديدًا يعجبني كثيرًا طرازه الفرنسي، الكراسي على قارعة الطريق، والورد الذي يملأ السلالم أمامه ينعش الروح، ينفتح على شارع واسع لكنه هادئ، لا تسمع إلا أصوات العصافير، وأصوات عجلات العربات الفارهة المسرعة وكأنها على موعد غرامي، خشخشات أوراق الخريف المتناثرة من زمن خلعت فيه الأشجار أثوابها أثناء زفافها للشتاء.

كثيرًا ما كنت أمر أمامه وأنا عائدة من العمل، فهو طريقي المختصر للمنزل، وما إن أمر أمامه إلا وتملأ أنفي رائحة القهوة. وكم تمنيت لو أوقفت السيارة ونزلت لأخذ فنجانًا، لا لأني أحب القهوة، بل لأنك تحبها. أنا لا أتحمل شرب القهوة، فهي قوية على معدتي منذ الطفولة، وما إن أشربها حتى أتألم كثيرًا.

هل تعرف أني أعشقها الآن عشقًا غريبًا وكأني أرتشف شفاهك، وأصافحها بعيني لأنظر إلى عينيك. تشجعت ونزلت سيرا على الأقدام، وما إن نزلت حتى آلمني ظهري فقررت أخذ أول تاكسي يمر. منطقتي من النادر أن تجد فيها مواصلات عامة. أكتب إليك لأحدثك عن شيئين: فكرة الموت والحياة.

وفكرة أننا كمفكرين لا نستطيع أن نتوقف. أما عن الموت الذي أؤمن به كمصرية قديمة ومسلمة، هو حياة أخرى في انتظارنا، ولذلك لا أكره الموت بل أراه جميلاً عكس ما يعتقد الناس؛ ذلك لأننا مفارقون وإن طال مكثنا. الحياة عبور للموت، ولكنه قد يطول بحسابنا. في هذا العبور نمر بأطماع الدنيا: فمن يريد المنصب، ومن يريد المال، ومن يريد الحياة بكل تفاصيلها ويحوزها، يفارقها لا محالة. فحنانيك، أنت أكبر بعملك وستخلد به. يجري أمامي الآن أطفال في غاية الجمال وأنا أكتب إليك يذكرونني بطفولتي.

كنت وأنا صغيرة، إذا ما خرجت من باب الشقة نزلت إلى الشارع أعدو غير مبالية بمن هم حولي أو ماذا سيقولون، أقفز على قدم ونصف حتى لما كبرت قليلاً كنت أفعل نفس الشيء. المهم أن تمتلئ رئتي بالهواء.

نعم، هل أدركت الآن؟ الدنيا هواء يدخل دفعة واحدة إلى الرئتين ثم يخرج، فإذا خرج ولم يعد متنا يا حبيبي. ما أتفه هذه الحياة وما أجملها. نرتبط فيها بأشياء صغيرة بالمودة والرحمة كأن نرتبط مثلاً بقلم معين أو فنجان نشرب فيه القهوة والشاي، فإذا ما تلف ظللنا نتذكره ونحزن عليه؛ لأننا أقمنا ذكريات لا نعرف سرها. فما بالك بالبشر النادرين؟! وأقصد بالندرة العمل الصالح. فليس الخلود مقصورًا على العلماء والمفكرين والكتاب.

فالعلم، والشعر، والكتابة أشياء عظيمة بالتأكيد. ولكن، هل تعتقد أن أبا حنونًا مربيًا فاضلًا لأولاده سينساه الناس؟! عمله العاطفي سيبقيه حيًا. الحياة تتشكل من أي شيء ومن كل شيء. والجسد هذا الذي يتحرك، يظل حائلاً يمنع كثيرًا من الناس من التواصل. إذا ما متنا، انطلقنا. أرواحنا توضع في أشكال لا تتفق معها مما يجعلها حائلاً دون التواصل. هنا تنطلق الروح، تفعل الأفاعيل في رحلة انعتاقها. إنها تعطي فرصة للأحياء أن يجربوا الحياة بكثير من الحب وقليل من الكره. هكذا كان موت أبي فاروق شوشة.

رحل الجسد الذي كان حائلاً بيننا وبينه. فالروح العاملة لا تتوقف وتظل تربط بين البشر ومصائرهم وتهديهم للصراط السوي. فمصيبتنا واحدة، وأنا لا أستحق منك كل هذه القسوة لأن من أحببته مات. فمن أحببته كان أبا ونبراسًا وهادياً لي كل لحظة؛ فمصيبتي أكبر وحزني أعمق لكني مختلفة في الفهم.

أما عن الأمر الآخر الذي أود أن أحدثك عنه، لماذا نحن كمفكرين لا نتوقف أبداً عن الكتابة؟ لأن الله خلقنا مختلفين. كل ذرة تسري في دمائنا مختلفة تطرب للكلمات وتنعتق أرواحنا إذا ما وقعنا على معنى جديد أو فكرة لم يصل إليها من سبقونا. كما أننا لا نشعر بالحياة إلا إذا كتبنا أو قرأنا. أحسست هذا جدًا الآن.

الناس من حولي مستمتعون بالكلام مع بعضهم، أو بالجلوس منفردين مع موبايلاتهم في نور الشمس ورائحة الورد والشيشة التي يعشقها البعض، أما أنا فأشعر باليتم لأني نسيت كتابك، فهو رفيقي ينوب عن قسوتك وجفائك غير المبرر. لا أستطيع أن أحيا توافه الحياة، لذلك حزينة أني لا أقرأ الآن. ولم أرتح إلا لما طلبت من النادل أن يحضر لي ورقة وقلماً لأكتب لك هذا الخطاب. ما إن أمسكت بالقلم والورقة إلا ورقص قلبي وزفت عيني إلى من تزوجت منذ أن تعلمت الكتابة إلى زوجها المداد.

فاطمئن يا حبيبي، لن تتوقف أنت أيضًا عن الإبداع. أنت خلقت هكذا. أنتعش الآن وتهدأ روحي قليلاً بعد قسوتك. أمس، أتمنى أن تكون معي تستمتع بالشمس والجو اللطيف الخريفي، تجلس في الطاولة المجاورة تكتب وأنا أقرأ.

بقلم
د. شيرين العدوي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى