كثير من الأشخاص يقعون في بئر نفسي عميق اسمه (التكرار القهري) وهو ما يجعلهم ينجذبون إلى أشخاص يشبهون صورة أهاليهم حتى وإن كانت تلك الصورة تترك آثارها السلبية في أنفسهم، ويعتقدون أن ما يشعرون به هو حب عاطفي ولكن في الحقيقة هي ظاهرة نفسية تحدث عنها عالم النفس سيجموند فرويد في كتابه التكرار القهري.
وقد أُجريت دراسة بجامعة بولاية ميشيجان لباحثة نفسية تدعى كاتلين ليهي وعالم النفس دكتور وليام تشوبيك، لتفسير التكرار القهري، ومنها تفسير أسباب وقوعنا في اختيار شركاء حياة يشبهون أحد الوالدين، حيث أجريت تلك الدراسة على 500 مشاركًا ومشاركة وخلصت إلى أن الناس يميلون إلى إبداء اهتمام رومانسي بالأشخاص الذين يشبهون أحد والديهم، وذلك رغم أن ذكرياتهم مع الوالد أو الوالدة مؤلمة، إلا أن الباحثون وجدوا أن أغلب المشاركين كانوا أكثر اهتمامًا بمواعدة أشخاصًا يذكرونهم بوالديهم.
طبق الأصل من والدي
كارلا منير 39 سنة معلمة لغة إنجليزية، مصرية الجنسية ومتزوجة منذ سبعة عشر عاما أعوام تقول: منذ أن بدأت أعي الحياة، أرى أمي على خلافات مستمرة مع والدي بسبب إدمانه للنساء، فكنت دائمًا أسمعها تردد أنها ليست كافية كزوجة وأنها تشبعت من سلسلة الخيانات الغير متناهية، وعبارات أخرى من ذلك القبيل، وبالتالي بدأت العلاقة بين والدي ووالدتي تنهار حتى أنها باتت تنام في غرفتي حتى وقت زواجي.
وتضيف كارلا: حين بدأت أدخل في سن النضوج كنت أستنكر كثيرًا أن أمي تحملت ذلك الزوج الأناني رغم أن خلافاتهما كانت تزداد يوميًا، وكنت بدوري أصرخ في وجهها وأترجاها أن تنفصل عن والدي ونستقل في منزلًا بعيدًا عنه ولكنها كانت ترفض ذلك وتتحجج بنظرة المجتمع لامرأة تركت زوجها بعد كل تلك الأعوام من الزواج، وحجج أخرى ليست لها علاقة بالواقع.
وتستطرد: الغريب أنني ورغم اعتراضي ورفضي الشديد لممارسات أبي إلا أنني حين اخترت زوجًا اخترت رجلًا صورة طبق الأصل منه في كل شيء، حتى في إدمانه للعلاقات النسائية، فحين تعرفت عليه وبدأنا نتعلق ببعض عاطفيًا أخبرني أنه إنفصل عن زوجته الأولى بسبب غيرها الشديدة عليه، ولكنني ظننت أنني سوف أستطع تغييره، ولكن بعد الزواج اكتشفت أنني كنت أكذب على نفسي وأن حالي بات صورة طبق الأصل من حال أمي ولكنني أحاول بقدر الإمكان ألا يشعر بناتي بأي شيء حتى لا يكن امتداد لى ولوالدتي في المستقبل.
(في الواقع أنني كائن جبان جدًا) بهذا الكلمات تتحدث سالي عمر اسم مستعار، 35 سنة، منفصلة، كاتبة، حيث قالت بكل أريحية: رغم أنني شخصية قيادية أو الجميع يرونني كذلك ويرون أيضًا أنني أتحلى بقوة شخصيتي إلا أن الواقع أثبت عكس ذلك تمامًا، فزوجي أهانني بكل أنواع الإهانة سواء اللفظية أو الجسدية من ضرب مبرح، إلى اجباري على ممارسة العلاقة الجنسية معه حتى في أوقات مرضي.
وتضيف سالي: للأسف تزوجت رجلًا يشبه والدي كثيرًا، فوالدي أيضًا كان شخصا عصبيا ونرجسيا يتعدى على والدتي بالسب والضرب ورغم أنني كنت أتمنى أن أتزوج شخص هادىء الطباع إلا أنني إنجذبت إلى رجل يشبه والدي كثيرًا ولم أستطع السيطرة على مشاعري رغم أنه كان كذلك منذ الارتباط قبل الزواج إلا أنني شعرت بالانجذاب الشديد له، ولم أتردد في الموافقة على الزواج منه، وبعد عام واحد من الزواج أدركت أن استمراري مع ذلك الشخص سوف يؤذيني، وأحمد الله أنني لم أنجب منه أطفالًا، واتخذت قرار الانفصال عنه وبالفعل قمت بخلعه عن طريق المحكمة، وحتى الآن أحاول التعافي من آثاره عن طريق الجلسات النفسية والدعم النفسي.
وفي نفس السياق تتحدث آية عبد الله 26 عام مهندسة ديكور، قائلة أنا متزوجة منذ عامين، ومنذ اليوم الأول في ارتباطنا ووالدتي وأصدقائي ينبهونني بأنه يحمل الكثير من الصفات التي أمقتها بوالدي والتي جعلت الخلافات تزداد بين والدي ووالدتي، ولكنني كنت لا أراه كذلك مطلقًا وكنت أقول لهم أنه مختلف كليًا عن والدي، حتى حدث موقف وبدأت أراه النسخة الثانية من والدي، ولكنني أحبه ولا أود الانفصال عنه.
الاختيار عن طريق اللاوعي
وفي الواقع أن ما أقرت به تلك السيدات يتماشى مع نفس مسار كتاب نظرية التعلق لعالم النفس جون بولبي والذي أوضح من خلاله أن الإنسان يميل إلى البيئة التي نشأ بها بمعنى أن الأطفال الذين يعيشون في بيئات أسرية آمنة يمليون حين يكبرون إلى تكوين علاقات آمنة والعكس صحيح أي أن الأطفال الذين يعيشون في بيئات أسرية مشوهة يميلون فيما بعد إلى علاقات مشوهة.
ومن جانبه علق دكتور هشام ماجد استشاري الصحة النفسية وعلاج الإدمان لكلمتنا قائلًا بأن هذه الحالة معقدة للغاية وبحاجة إلى تحليل نفسي عميق من قبل المعالج النفسي.
مشيرًا إلى أن هذه الظاهرة إسمها ظاهرة التكرار القهري وهي لا تقتصر على النساء فحسب ولكن تقع على الرجال أيضًا.
وعن الحالات السابقة يفسر ماجد كيف وقعن في بئر التكرار القهري قائلًا: أن الإبنة تكون رافضة لبعض ممارسات والدها أو لبعض التفاصيل في علاقة والديها ولكنها حين تختار زوجًا، تختار رجلًا يحمل نفس الصفات، وهنا يكون الاختيار عن طريق اللاوعي، فاللاوعي هو الذي يقوم بتحريكها ولكن بينها وبين نفسها تعطي مبررات أو حيل دفاعية لتقنع نفسها بأن الشخص الذي تود الارتباط به لا يحمل نفس مواصفات الأب.
ويضيف ماجد: تظل المرأة هنا تقنع نفسها بأنها سوف تستطيع التعامل مع عيوب الزوج أو أنها سوف تنجح في تغييره، ولكن كل ذلك مجرد حيل دفاعية، فكلما رأت ذلك العيب تحاول أن تزيحه وتنكره كي تستمر في علاقتها بذلك الشخص.
ويقول ماجد أن البيئة التي نشأ فيها الإنسان هي أساس حياته كلها، وهو ما يتضح من خلال دراسة أجريتها وتم اعتمادها عالميًا، وقد خلصت إلى أن أطفال الطلاق معدل الطلاق بينهم حين يصبحون أزواج وزوجات ثلاثة أضعاف الأطفال الذين نشأوا في بيئات أسرية سوية، كذلك الأطفال الذين ينشأون في بيئات أسرية غير مستقرة بين الأب والأم يكونون عرض للاضطرابات النفسية بمعدل ثلاثة أضعاف الأطفال الذين يعيشون في استقرار أسري.
وفي النهاية ينصحنا ماجد بضرورة إدراك أن اللاوعي يحركنا جميعًا بصورة مرعبة، لذا يجب علينا محاولة الهيمنة على العقل اللاوعي من خلال محاولة تجنب اتخاذ القرارات عن طريق العواطف فقط وضرورة تغليب العقل الواعي.