ما بين عام يلملم أوراقه وآخر آت، ترى متناقضات الحياة الإنسانية، متشبث بأحلام هنا، وآخر قد وجدها لا تساوي، أو كما جرت أقوال المصريين “طولها كعرضها”.. ولا يمكن بحال أن نجهل سننًا كونية، نحياها صباح مساء، ففي اللحظة التي نسمع صراخ مولود جاء إلى الدنيا، نرى غيرنا يصرخ لفقد عزيز، وكأنها حياتنا بين صرختين، أو بالأحرى، ما أشبه البداية بالنهاية لمعتبِر!
مع بدء عام 2025 ورغم مرور أقل من شهرين، تساقطت أوراق كثيرة من شجرة مثقفي المحروسة، فما بين عامر التوني، مؤسس فرقة المولوية المصرية، إلى الأستاذ محمد بيومي، ومرورا بعازفة البيانو العالمية بدار الأوبرا، مشيرة عيسى، وكذلك الدكتور سامي عبد العزيز، أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة، فما أعظم خسائرنا!
في أغلب الأوقات تكون كلمات النعي عادية، في حضرة وجع الفراق والبَين، ولكن رحيل شخص يثري المشهد فنًا أو ثقافة أو علمًا يزيد من هذا الوجع، فمن منا -من يتابع المشهد على الأقل- لم يقف على نصيحة من د. سامي عبد العزيز، في التسويق أو الإعلام أو إدارة المشهد؟، ومن منا لم يسعد بما قدمته فرقة المولوية من إثراء بقصائد المديح النبوي والفن المصري والتراث الفولكلوري؟، بل دعني أسأل، كم دولة تمتلك من المبدعين مثلما نمتلك ثراء وثقافة وفنًا؟
قدمت فرقة المولوية التي أطلقها التوني تجربة متميزة، تضمنت أناشيد مثل: «لأجل النبي»، و«لاموني يا رسول الله»، و«والله ما طلعت شمس ولا غربت»، و«يا طارق الباب»، و«كل شيء في الكون مخلوق يصلي عليه»، و«طلع البدر علينا».
في الوقت ذاته، فإن الدكتور سامي عبدالعزيز الأستاذ بقسم العلاقات العامة والإعلان، والعميد الأسبق للكلية، ورئيس لجنة قطاع الإعلام السابق بالمجلس الأعلى للجامعات، وأحد أبرز الأكاديميين في مجال الإعلام في مصر والعالم العرب، ترك بصمة لا يمكن إنكارها بحال، وتراها في كتبه التي نقلت إلينا خبراته لعقود في مجال الاتصالات التسويقية المتكاملة والعلاقات العامة، بجانب العشرات من المقالات الرصينة على صفحات جريدة الأهرام المصرية، منذ عام 1999 حتى العام الجاري.
وتعد مشيرة عيسى، واحدة من أبرز عازفات البيانو في مصر والعالم العربي، حيث حصلت على دبلوم المعهد العالي للكونسرفتوار بتقدير امتياز، ثم استكملت دراستها الموسيقية بدبلوم فن الأداء على البيانو من فيينا، النمسا عام 1948، ودرجة الدكتوراة في الموسيقى عام 1987، ونالت جوائز كثيرة منها: جائزة ستيبانوف بفيينا، وجائزة شيكاغو للفنون.
أما الأستاذ مصطفى بيومي فخسارته لا تقل فداحة، كيف لا وهو الذي نشأ في أسرة مثقفة ومبدعة بمحافظة المنيا، فوالده الأستاذ علي بيومي صاحب كتاب “أضواء على تاريخ المنيا” ومؤلف نشيد المنيا القومي في الستينيات، والذي كان ضمن أبياته:
“هنا البهنسا موطن الشهداء.. وتونا يخلد فيها البناء
وفي الأشمونين سما إخناتون.. يوحد مولاه في كل حين”.
ولكن الأستاذ مصطفى بيومي نفسه ترك عشرات الكتب الرصينة، في مختلف المجالات، من أبرزها: يوميات سعد عباس، عباقرة الظل، الإخوان المسلمون والسينما، السادات في الرواية المصرية، معجم نجيب محفوظ، وطنيون وطائفيون، وغيرهم الكثير والكثير.
إنها محطات تاريخية تسترعي إدارة هذه المواهب وتعريف العالم بها، فمن كان يعرف بيتهوفن أو موتسارات لو لم يكن له هذا الدعم لإبداعه وفنه؟ ومن كان يدرك أن شخصية ثقافية أو فنية بمقدورها أن تستخدم قوتها الناعمة في محطات فاصلة من عمر هذا العالم!
الحقيقة التي لا فكاك منها، أن كلنا راحلون، عاجلًا أو آجل، ولكن الأهم أن تسأل سؤالا: بماذا تود أن يتذكرك العالم بعد سنوات، وما الرصيد الذي تسعى لتركه؟ .. وما الخطوات التي تفعلها لتنجح في ذلك؟. إنها أسئلة تحتاج منك إلى إجابة فورية، اليوم قبل الغد، تحتاج والسعي والعمل بدلًا من التنظير والوقوف في منتصف الطريق، الاجتهاد والمثابرة، لا التراخي والكسل!.. باختصار شديد: ابدأ الآن، حتى تكن ذلك الذي تود للناس أن يتذكروه، وإلا فرحيل في هدوء ولا أثر لك!