كاتب ومقال

إبداعات كلمتنا| “دليل البراءة”

إنتهى الأستاذ جلال من إلقاء مرافعته وجلس وهو يتحاشى النظر لقفص المتهمين ورؤية وجه حسناء الغارق في الحزن واليأس، مرافعته لم تحمل معلومة واحدة قد يستند لها القاض لمجرد تخفيف الحكم عليها، مرافعة أدبية إنسانية لا علاقة لها بملابسات الواقعة، فقط لم يستطع الأستاذ جلال الجلوس صامتًا وتفويت أبسط محاولة لمساعدة حسناء واستدراء عطف هيئة المحكمة الموقرة..

جريمة قتل سهلة بلا أي تعقيد، قتلت حسناء زوجها رفعت بطعنة نافذة في قلبه، لا مجال للشك ولا مجال للحيرة وهى بنفسها أكدت في تحقيقات النيابة أنها كانت بصحبة رفعت في شقتهم ولم يكن معهم ثالث أو رابع، اعتراف ضمني أنها يقينًا القاتلة مادامت تُصر على وجودها وحدها مع رفعت قبل صراخها وتجمع الجيران ورؤية رفعت غارقًا في دمائه مفارقًا الحياة..

بدت الجريمة لغز للمحقق في البداية وحسناء تُقسم أنها لم تقتل زوجها وكيف تقتله والكل يعرف مدى حبها له وشهد الأقارب والجيران على ذلك وأكدوه في كل مرات التحقيق، ظن المحقق في البداية أن هناك من تسلل ودخل الشقة وإرتكب جريمته وفر قبل أن يراه أحد، لكنها بنفسها نفت ذلك وشهدت أن شقتهم لم يدخلها غريب أو قريب قبل وقوع الجريمة..

أبسط قواعد حل لغز أي جريمة قتل، معرفة أداة الجريمة وبعدها البحث عن الدوافع والأسباب، أداة الجريمة واضحة ومعلومة وتم التحفظ عليها، سكين مطبخ من الحجم المتوسط وعليه بصمات حسناء ورفعت ولا ثالث لهم..

بكاء حسناء لا تعتد به المحكمة ولا تبني أحكامها وفق حجم دموع المتهمين، لم تُقدم حسناء أي شئ ولو بسيط يثبت براءتها ولولا عدوم وجود دافع قوي للقتل لحكمت عليها بالإعدام من أول جلسة، أكد الأستاذ جلال ذلك عدة مرات في جلساتهم معًا وهو يُفهمها أن أقصى ما يمكنه فعله هو الحصول على حكم مخفف، قمة اليأس.. لا دليل إدانة قاطع ولا دليل براءة واضح، قتيل وأداة قتل ومتهم لا يفعل شئ سوى البكاء والقسم بأنه لم يفعلها..

تم تأجيل النطق بالحكم للجلسة القادمة وخرج جلال من القاعة مهرولًا بضيق واضح وغضب مرتسم على وجهه، لم يستطع رفض القضية بسبب صلة القرابة بالمتهمة، وفي نفس الوقت لا يُرضيه أن يُعرف عنه خسارة قضية كبيرة وصلت لصفحات الجرائد والسوشيال ميديا وصنعت لغط كبير وإنقسام الأراء بين متعاطف ومطالب بقسوة العقاب وسرعة القصاص..

فور وصوله مكتبه قدم له الساعي ظرف، وجد جلال فيه بعد فتحه “فلاش ميموري” ورسالة قصيرة في ورقة صغيرة “محدش قتل رفعت”، على الفور وضع الكارت بجهاز الكمبيوتر الخاص به وفتح فمه من الدهشة، فيديو تم تصويره من أحد النوافذ المقابلة لنافذة شقة رفعت وحسناء، بدأ الفيديو بوجود رفعت مرتديًا ملابس داخلية منزلية وأمامه طبق به تفاح وبيده سكين الجريمة وهو يشاهد التلفاز..

قطب جلال حاجبيه بدهشة وضيق وهو يستوعب أن الڤيديو قام أحد المتلصصين بتصويره وعرف السبب فور ظهور حسناء، دخلت المشهد برداء منزلي يكشف الكثير والكثير من مفاتنها بشكل يُشعل الأعصاب ويحرك الرغبة في الزواج، إلتقطت عدة أشياء من الأرض ثم إختفت ورفعت مكانه حتى قام وهو ممسكًا بالسكين لإحضار علبة سجائره من فوق منضدة في أحد الأركان، تعثر أثناء مشيه وسقط على وجهه ثم انتقض جسده وإنقلب على ظهره ووضح أن السكين قد إخترق صدره بسبب سقوطه..

فز جلال من شدة فرحته لحل لغز ومقتل رفعت وقام على الفور بالإتصال بشقيقي حسناء وطالبهم بسرعة الحضور للأهمية، بعد وصولهم وإغلاق المكتب على ثلاثتهم، زف لهم خبر براءة شقيقتهم حسناء وقص عليهم ما حدث ثم قام بتشغيل الڤيديو من بدايته من جديد..

بُهت الرجلين فور رؤية حسناء بهيئتها الشبه عارية وإمتقعت وجوههم وبعد إنتهاء المقطع قام الشقيق الأكبر بالهجوم على الجهاز وأخذ الفلاش ميموري وهو يصرخ بغضب ويهاجم جلال بعنف بالغ، أبدًا لن يقبلوا أن يُقدم الڤيديو للمحكمة ويرى العشرات جسد أختهم وهى شبه عارية حتى لو كان ذلك هو دليل براءتها الوحيد..

حاول معهم بكل الطرق مع التأكيد على إمكانية الطلب من المحكمة سرية مشاهدة دليل البراءة وجعله في أضيق الحدود ولكن دون جدوى، نقاش على شكل شجار حتى صاح الشقيق الأصغر بحسم بأنهم قرروا سحب القضية من مكتبه والإستعانة بمحام آخر، فكر في الإبلاغ عنهم في نفس اللحظة التي قضم فيها الشقيق الأكبر الفلاش ميموري بأسنانه وبصقه من النافذة، تم محو دليل البراءة ولن يُجدي بلاغه إن فعل..

رغم ما حدث أصر جلال على حضور جلسة النطق بالحكم في وجود محام آخر غيره وحكمت المحكمة بالسجن خمسة عشر عامًا على حسناء الشابة التي لم تصل لعامها الثلاثون بعد، صرخت بلوعة وبكى شقيقيها عند إقترابهم من قضبان القفص ومحاولتهم لمس أصابعها وهم في حالة يرثى لها من شدة حزنهم على مصير شقيقتهم التي راحت ضحية عدم وجود دليل لبراءتها.

بقلم
أحمد عبد العزيز صالح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى