رؤى التحول الاقتصادي والطاقة| التسهيلات الضريبية.. هل تنجح الدولة في كسر عقدة الفاتورة الثقيلة؟

لم تكن المنظومة الضريبية في مصر يوما مجرد أداة لتحصيل الأموال بل كانت – وستظل – انعكاسا مباشرا لعلاقة الدولة بالمواطن ومرآة تعكس فلسفة الحكم في توزيع الأعباء وتحقيق العدالة، وتوسيع قاعدة الشراكة في تمويل التنمية. ومن هنا تكتسب التسهيلات الضريبية الأخيرة التي أعلنتها وزارة المالية دلالات تتجاوز لغة الأرقام واللوائح لتصل إلى جوهر التحول الذي تشهده الإدارة المالية للدولة.
فحين تختار الحكومة أن تفتح أبواب التسوية للممولين المتعثرين، وتُسقط الغرامات، وتُعيد النظر في طرق التحصيل، وتُبسّط الإجراءات عبر الميكنة ومراكز الخدمات، فهي لا تمنّ على المواطن بل تمارس مسؤوليتها الحقيقية في بناء اقتصاد متماسك لا تُثقل فيه كاهل المنتج ولا يُهدر فيه جهد المستثمر ولا تُفقد فيه الدولة ثقة دافعي الضرائب.
إن ما يحدث الآن من تحولات في السياسة الضريبية هو محاولة حقيقية – وربما الأكثر جدية منذ عقود – لإعادة ضبط العلاقة بين الدولة ومجتمع الأعمال في ظل أزمة اقتصادية عالمية ضاغطة وتحديات داخلية مركّبة تحتاج إلى حُسن إدارة وليس فقط إلى مزيد من الجباية. وبدلا من لغة العقاب تتقدم الآن لغة التحفيز ومن وراء ذلك فلسفة اقتصادية جديدة: شجع الممول على الالتزام بدلا من أن تلاحقه بلا جدوى.
لكنّ المسألة لا تتوقف عند التسهيلات فقط بل تمتد إلى ما هو أبعد: بناء ثقافة ضريبية جديدة يشعر فيها المواطن أن ما يدفعه يعود إليه في صورة خدمات وبنية تحتية وتنمية، وأن العدالة ليست شعارا بل ممارسة. ولا شك أن المصداقية هنا هي مفتاح النجاح: فإذا لمس المواطن شفافية في آليات الصرف وعدالة في التوزيع فسيبادر من تلقاء نفسه إلى الدفع دون تهرب أو مقاومة.
ولا يغيب عن المشهد أن نظام الفاتورة الإلكترونية الذي يُعمّم الآن في مختلف القطاعات ومعه منظومة الإيصال الإلكتروني للمستهلكين يُعد من أكبر قفزات الإدارة الضريبية في تاريخها لأنه يضرب في جذور التهرب.ويوسّع القاعدة الضريبية ويُخرج الاقتصاد غير الرسمي من الظلال إلى النور. لكن هذا التحول الرقمي يجب أن يُرافقه وعي شعبي، وتيسيرات قانونية، وتدريب كاف، حتى لا يتحوّل إلى عبء إضافي على أصحاب المشروعات الصغيرة والمتوسطة.
إن الطريق إلى نظام ضريبي عادل وفعّال لا يُبنى فقط على القوانين بل على الثقة المتبادلة. وحين يشعر المواطن أن دولته تحترمه، وتُقننه، وتُرشده، ولا تستنزفه، فإن الجباية تتحوّل إلى مساهمة والضريبة تصبح شراكة في التنمية لا فاتورة تُفرض بالإكراه.
في النهاية فإن التسهيلات التي طُرحت – وعلى رأسها إنهاء المنازعات وجدولة المديونيات وإلغاء غرامات التأخير – هي فرصة حقيقية لإعادة رسم العلاقة بين المواطن والدولة بشرط أن تترجمها الأجهزة التنفيذية إلى سلوك إداري جديد وأن تُحسن إدارتها عبر فكر شراكي لا سلطوي وأدوات ذكية لا تقليدية.
لقد طال انتظار الإصلاح الضريبي الحقيقي في مصر. واليوم ومع ما نراه من خطوات فعلية ، فإن السؤال لم يعد: هل نُصلح؟ بل: هل نُحسن إدارة هذا الإصلاح؟!