كاتب ومقال

دار في خاطري| ويبقى الورد مبتسمًا

ما أجمل الطبيعية الخلابة، لقد اشتقت للسير بين تلك المزارع والحقول، فلقد عشت طفولتي وأجمل أيام شبابي بين مزارع كاليفورنيا حيث الراحة والهدوء، ولكن أجمل ما كان في تلك الأيام وذلك المكان هو جارتي إيميلي، تلك الجميلة ذات الشعر الذهبي والعيون الزرقاء الصافية التي تصغرني بخمسة أعوام.

لقد عشت طفولة سعيدة أنا وإيميلي، فكم كنت أشعر بالسعادة حين أراها وتأتي لتطلب اللعب معي، وكم كانت سعادتي لا توصف حين تطلب مني شيئا ما، وتبلغ سعادتي أقصاها حين أرى سعادتها بما أقدمه لها، فقد كانت تلك الأيام حقا أجمل أيام حياتي.

وعندما بلغت الخامسة عشر من عمري كنت آخذ العربة الخاصة بنا، وهي عربة صغيرة يجرها زوج من الخيول واصطحب إيميلي في نزهة بين الحقول، كانت تبدأ نزهتنا عند شروق الشمس، وتنتهي بعد الظهيرة بوقت قصير، وقد كانت نزهتنا تلك هيا غاية سعادتنا.

عندما بلغت عشرون ربيعا بدأت أوقن بأنني أحب إيميلي، فلقد كنت أحب رؤيتها، والتنزه برفقتها، والتحدث إليها ليلا بعد غروب الشمس قرب التل الصغير المجاور لبيتها.

ولكن ما كان يؤرقني هو أنني لا أعلم إن كانت هي أيضا تبادلني الحب أم لا، فعندما بلغت خمس وعشرون ربيعا شعرت بأن الوقت قد حان لأعلم مشاعرها تجاهي، فحاولت معرفة ذلك بطرق غير مباشرة ولكني لم أفلح في معرفة أي شيء.

وبعد ذلك بثلاثة أعوام اضطررت للسفر إلى نيويورك للعمل هناك، فكرت أن أصارحها بحبي لها ولكن شعرت بخجل شديد، فآثرت أن أكتب لها كل ما أكنه لها من حب في رسالة وأرسلها إليها، ولكني قررت ألا أكتب اسمي معتمدا على فطنتها في معرفة خطي.

وصلتها رسالتي ولم تقل لي أي شيء، ولم يظهر عليها علامات تدل عن الرضا أو الغضب من تلك الرسالة، وحان موعد سفري إلى نيويورك، فودعتها وقلبي ينزف لأنني لن أراها كل يوم، ولأنها لم تبدي أسفا أو حزنا لفراقي، فأيقنت بأنها لا تحبني، وإن ذلك الحب وتلك الأحلام لم تكن إلا أوهاما نسجها لي خيالي، وحاولت إقناع نفسي بذلك لكي تستمر الحياة.

مر عامين كنت أبذل جهدا غير عاديا في العمل لكي لا يبقى لدي وقت في التفكير في إيميلي التي لم يصلني منها أي رسالة أو مكالمة تليفونية رغم حرصي على إيصال عنواني ورقم هاتفي لها.

في تلك الأثناء تعرفت على زميلة لي في العمل كانت تعمل بجد مثلي وتحب عملها كثيرا، فكان أول حديث لنا في أحد الأيام بعد انتهاء العمل، فبدأت حديثها بأنها راقبتني جيدا حتى تأكدت من أنني إنسان مخلص في عمله، وعلى خلق قويم، شكرتها وقبل أن أجاملها بكلمات بسيطة باغتتني في جراءة لم أعهدها بأنها تحبني.

فكرت لبعض الوقت ورحت أقارن بين إلين التي تحبني وإيميلي التي أحبها وعلى الفور كتبت رسالة لإيميلي أخبرها فيها بأنني سوف أتزوج، وكانت تلك هي محاولتي الأخيرة، وصلني الرد في رسالة مكونة من كلمات معدودة وهي عبارة عن تهنئة بالزواج.

عندئذ قررت أن أتزوج إلين وبالفعل تم الزفاف وعشنا في نيويورك، وبعد زواجي بشهر واحد وصلتني رسالة من إيميلي تخبرني فيها بأنها تزوجت هي أيضا.

ومرت السنون والأعوام وعلى الرغم من أنني لم أكن أحب إلين ولكني عشت معها حياة سعيدة ولد خلالها حب مختلف وأكبر بمرور الأيام، ولكن لم يشأ الله أن ننجب أطفالا، فكانت حياتنا منصبة بين العمل الدؤوب وقليل من الترفيه.

وعندما بلغت التاسعة والخمسون خريفا شاء الله أن أكمل حياتي وحيدا، فقد توفت إلين، فشعرت بفراغ كبير، ووحدة موحشة، فقررت أن أنهي جميع أعمالي في نيويورك وأبيع البيت وأعود إلى أرض الطفولة حيث الطبيعة والهدوء.

ما إن وصلت إلى كاليفورنيا حتى تهاوت عَلَيّ الذكريات كجبل من جليد، فبدأت أشعر ببرد شديد رغم أننا في أيام فصل الصيف، ورحت أفكر في إيميلي وزوجها وأولادها وربما أحفادها، وكيف ألقاها؟! وماذا أقول لها؟! أفكار وأسئلة لا حصر لها.

وصلت إلى بيتي القديم، فجلست لأستريح ولكن رائحة الحقول راحت تناديني، فخرجت من البيت، ورحت أسير بين الحقول، وفجأة ظهرت أمامي امرأة ذات شعر ذهبي تسلل إليه الشيب، وعيون زرقاء تختبيء خلف نظارة ذات عدسات سميكة، نظرت إلي وابتسمت ابتسامة طفولية أعرفها أنارت وجهها، وأزالت عنا آثار السنين، وقالت: روبرت؟! كيف حالك؟! أجل إنها إيميلي الوردة الجميلة التي لم يزول عنها عطرها وابتسامتها رغم مرور السنين.

وجدت أن الأيام الماضية قد عادت، فكنت ألتقي إيميلي كل يوم، ونجلس ونتحدث كثيرا، ونسير في المزارع، وفي أحد الأيام تذكرت أنها متزوجة، فسألتها عن زوجها وأبنائها، فقالت: أنها لم تتزوج، بل كانت تلك الرسالة التي أرسلتها لي ما هي إلا كذبة، فعندئذ شعرت بأن الحياة غمرتها ورود يانعة متفتحة ومبتسمة، وعلى الفور قلت لها: أحبك، فقالت لي: وأنا أيضا، فسألتها منذ متى؟! فقالت: منذ اكتشفت أنك غبي، بل أغبى إنسان في هذا الكون، فكانت تلك الكلمات أجمل كلمات المدح التي سمعتها في حياتي.

تزوجت أنا وحبيبتي إيميلي وأنا أبلغ من العمر ستين عاما، لأبعث رسالة للعالم بأن الحياة لن تتوقف بتقدم السنين، ويبقى الورد مبتسما مادام يحمل عطرا جميلا يبقى شذاه في الكون مادام حيا.

بقلم:
ريم السباعي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى