كاتب ومقال

دار في خاطري| بيت الأحلام

يحكى أنه في قديم الزمان، في زمان ليس كمثله زمان، أو ربما تشابهت معه بعض الأزمان في الأحداث والمكان، ولكن ما تغير هو الإنسان، تغير الأشخاص، لا تغير الصفات والطباع، والخير والشر، والفضائل والرذائل، والتطلع نحو الأفضل، مع اختلاف ذلك الأفضل باختلاف الأشخاص وفكرهم ونواياهم.

فقد عاشت امرأة عجوز وحيدة في بيتها الذي أحبته كثيرا، لقد كان هذا البيت قديما قائما في بقعة نائية، خالية من البشر، فكم كانت تشعر بالوحدة والفراغ، وكم تمنت أن يعج المكان بالبشر، فيصبح لديها جيران طيبون، وتكون صداقات قوية معهم، تتحدث إليهم بالنهار، وتأنس بوجودهم في الليل، ويساعد بعضهم البعض، فتلك هي الحياة التي تروق لها.

وعلى مر الأعوام زحف البشر إلى تلك الأرض وعمروها، فشعرت المرأة بالسعادة لأن حلمها يتحقق، فها هي الحياة تزهو بوجود البشر.

فسعت لتكوين صداقات مع جيرانها ولكن قوبلت بالفتور واللامبالاة، وأحيانا بالرفض بسبب ضيق الوقت، كما أنها وجدت من يخشون وجودها بينهم، ومنهم من يعتقدون بأن فكرها بال ونمطها في الحياة قديم لا يناسب عصرهم، ومنهم من يخافون أن تؤذي أبناءهم وكأنها عفريت أتى من زمن بعيد ليلتهمهم، بل الأكثر من ذلك أصبح وجودها يؤرقهم، ربما بسبب نصحها الدائم لهم بالاهتمام بنظافة المكان، وخفض الأصوات العالية داخل كل بيت حتى لا يزعج بعضهم البعض، أو ربما لأنها تقطن بيتا يتسع لامرأة مطلقة وأبنائها الصغار لم تجد بيتا يؤويها، فتلك المرأة أحق منها في ذلك البيت، ولتذهب هي إلى أي دار لرعاية المسنين.

شعرت المرأة بأنها منبوذة من البشر التي طالما حلمت بوجودهم، فآثرت وحدتها بين جدران بيتها الذي لن تجد صديق مثله، فاهتمت به أكثر من ذي قبل، وزينته بالزهور والنباتات ومجموعة من طيور الزينة المختلفة الألوان والأنواع، كما أحبت رفقة قطة صغيرة، فصارت صديقة جيدة، وبدأت حياتها الجديدة وكأن لا وجود لهؤلاء البشر من حولها.

ولكن الحال في خارج ذلك البيت قد ازداد سوءا، فقد أصبح ملوثا بدرجة يصعب السيطرة عليها، كما علت الأصوات أكثر من ذي قبل، حتى أصبح وكأن الجميع يحيا في بيت واحد، يسمع كل منهم ما يدور داخل كل بيت بأدق تفاصيله، كما ازداد الشجار والمشاحنات بين الأفراد، وراحوا يتقاذفون السباب والألفاظ النابية، فكلما حدث شجار يهب إليه النساء والرجال حتى الأطفال يتسابقون في السب بأنبذ الألفاظ، والغالب من يلحق الأذى بالأخرين دون النظر ولو لبرهة إلى من المحق ومن المخطئ، فالكل يرى نفسه على حق.

ضاقت العجوز ذرعا بما يحدث حولها، ففي أحد الأيام التي اشتد فيها الشجار الذي لم تتحمل سماعه قررت أن تخرج من البيت لترتاح بعيدا حتى ينتهي ذلك الشجار، فخرجت مصطحبة قطتها، تحتضنها وتخبئ وجهها بوشاحها لتتفادى الحجارة التي يتراشقها المتشاحنين، ثم راحت تسير بعيدا ليس لديها وجهة تقصدها حتى أنهكها التعب، فجلست تستريح تاركة لقطتها المجال لتلهو وتلعب بعض الوقت.

وبينما هي على هذه الحال وجدت أمامها رجلا ضخما قال لها بصوت أجش: ما خطبك أيتها المرأة؟ فقصت عليه قصتها، فقرر الرجل مساعدتها، فقدم لها بلورة كريستالية وقال: ثبتي تلك البلورة بين كلتا يديك وانظري إليها بإمعان، ثم تخيلي المكان الذي تودين العيش به، وسوف يتحول المكان من حولك إليه، وستجدين بيتك في ذلك المكان، أخذت المرأة البلورة وشكرته وعادت من فورها إلى البيت.

دخلت إلى البيت وراحت تنظر من أحد النوافذ إلى المكان المقزز في الخارج، والذي زاد بشاعته ما أسفره الشجار الأخير الذى انتهى قبل عودتها بدقائق، ومن ثم أمسكت بالبلورة ونظرت إليها وتخيلت حديقة غناء مزهرة أزهارها، وشمس مشرقة دافئة، وجدول ماء، وسرعان ما وجدت بيتها يحيط به تلك الحديقة الجميلة كما تخيلتها، فسعدت بذلك سعادة بالغة.

مرت أيام والمرأة تحيا في تلك الحديقة، وبينما هي تنظر إلى الأشجار قالت متعجبة: أيأتي الخريف يوما إلى هنا فيفسد جمال المكان؟ وسرعان ما أتتها الإجابة “لا” فالمكان لن يتغير إلا إذا غيرته هي، فراحت وأمسكت بلورتها السحرية ونظرت إليها وتخيلت مكانا جليديا، فتبدل المكان على الفور.

عاشت المرأة فترة من الزمن تتنقل من مكان إلى مكان وجميعها أماكن تروق لها، حتى أتي يوما خطر ببالها فكرة، وهي أن تتخيل مكانا جميلا يعيش به أناس طيبون تحيا بينهم كما كانت تحلم في السابق، وسرعان ما سمعت أصوات صراخ وضجيج، فنظرت من النافذة فإذا ببيتها قد عاد إلى مكانه القديم، فأسرعت وأمسكت البلورة ونظرت إليها وراحت تتخيل مكانا جميلا، فرأت بداخلها وجه الرجل الضخم الذي أعطاها البلورة، وسمعت صوته الأجش يقول: انتبهي!! هذه فرصتك الأخيرة.

بقلم: ريم السباعي

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى