رؤى التحول الاقتصادي والطاقة| الأمن المائي.. معركة القرن التي بدأت بالفعل

لم يعد الماء مجرد مورد طبيعي عادي بل أصبح في هذا العصر سلاحا استراتيجيا لا يقل خطورة عن النفط والغاز بل وربما يتجاوزه في قيمته. في زمن تتسارع فيه التحولات المناخية ، ويزداد عدد سكان العالم بوتيرة متلاحقة وتتصاعد الضغوط على الموارد تبرز المياه باعتبارها معركة القرن التي بدأت بالفعل حتى لو لم تُقرع طبولها رسميًا بعد.
حين نتأمل خريطة العالم ندرك سريعا أن الأمن المائي صار قضية وجودية ترتبط بمصير الشعوب واستقرار الدول. فالتقارير الدولية تؤكد أن ما يقارب ثلثي سكان الكوكب قد يواجهون أزمة مياه حادة بحلول عام 2050 وأن مناطق بأكملها – من الشرق الأوسط إلى أفريقيا جنوب الصحراء – قد تدخل في صراعات مباشرة بسبب هذا المورد المحدود. ما كان يُقال قبل عقود في سياق تحذيري بات اليوم واقعا يطرق الأبواب.
الماء هو الحياة لكنه أيضا السياسة والاقتصاد والأمن القومي. الدول التي تمتلك وفرة مائية تجد نفسها في موقع قوة بينما تلك التي تعاني من الشح تبحث عن حلول قد تكون مكلفة أو تدخل في نزاعات مع جيرانها. وهنا يظهر البُعد الجيوسياسي للأمن المائي: فالنهر ليس مجرد مجرى طبيعي بل خط حدودي وسلاح ضغط ومصدر نفوذ.
لنأخذ القارة الأفريقية مثالا. نهر النيل الذي كان عبر التاريخ شريان الحضارات أصبح اليوم ساحة معقدة لتشابك المصالح. مصر التي تعتمد على النهر بنسبة تتجاوز 90% من احتياجاتها المائية ترى في أي تهديد لمياهه مسألة حياة أو موت. السودان بموقعه الجغرافي وموارده الزراعية يُدرك أنه طرف رئيسي في المعادلة. إثيوبيا ببنائها سد النهضة تسعى لتوليد الكهرباء والتنمية ، لكنها في الوقت نفسه أثارت قلقا عميقا بشأن الأمن المائي لدول المصب. إنها معركة القرن في صورتها الصريحة: صراع بين الحق في التنمية والحق في الحياة.
لكن النيل ليس وحده. نهر الفرات ودجلة في العراق وسوريا وتركيا يعكسان مشهدا مشابها؛ حيث تحولت المياه إلى ورقة تفاوض وضغط سياسي. في آسيا يُثار الجدل حول أنهار الهيمالايا التي تتحكم فيها الصين وتؤثر على دول الجوار. وحتى في القارة الأوروبية التي تبدو مستقرة نسبيا بدأت أزمات الجفاف تضغط على دول جنوبها من إسبانيا إلى إيطاليا وتفرض سياسات مائية صارمة.
المعادلة أصبحت أكثر تعقيدا مع تغيّر المناخ. فذوبان الجليد وتراجع الأمطار ، وارتفاع درجات الحرارة ، كلها عوامل تُعيد تشكيل خريطة المياه. لم تعد المشكلة فقط في إدارة الموارد المشتركة بل في تقلص هذه الموارد أصلا. والأدهى أن النمو السكاني يلتهم كل محاولات التوازن. فالعالم يُضيف كل عام عشرات الملايين من البشر فيما يظل حجم المياه العذبة ثابتا لا يزيد.
السؤال إذن: كيف نواجه هذه المعركة؟ هل بالتصعيد والصراع م بالتعاون والشراكة؟
التجارب العالمية تُثبت أن الحلول الأحادية لا تدوم. بناء السدود الضخمة قد يحقق مكاسب فورية لكنه يخلق أزمات طويلة الأجل مع دول الجوار. سياسات التوسع الزراعي غير المرشد تستهلك ما يفوق الطاقة المائية المتاحة. وحتى الاعتماد على تحلية مياه البحر رغم أهميته لا يمكن أن يكون الحل الوحيد لأنه مكلف بيئيا واقتصاديا.
ما نحتاجه هو رؤية شاملة للأمن المائي تقوم على ثلاث ركائز أساسية.
الأولى: إدارة رشيدة للموارد عبر سياسات صارمة لترشيد الاستهلاك وتطوير تقنيات الري الحديث وإعادة تدوير المياه. ليست هناك دولة تستطيع أن تُهدر نصف مواردها ثم تلوم الطبيعة أو الجغرافيا.
الثانية: التعاون الإقليمي فالمياه لا تعرف الحدود السياسية. الأنهار العابرة للدول تحتاج إلى آليات عادلة لتقاسم المنافع. فبدلا من أن يكون النهر سببا للنزاع يمكن أن يتحول إلى منصة للتكامل: كهرباء لإثيوبيا زراعة لمصر والسودان واستقرار للجميع. هذه ليست مثالية بل ضرورة إذا أردنا أن نجنّب شعوبنا ويلات الحروب.
الثالثة: الاستثمار في الابتكار. العالم يشهد اليوم ثورة في تكنولوجيا المياه من تحلية منخفضة التكلفة إلى استمطار السحب إلى الذكاء الاصطناعي في إدارة الموارد. الدول التي تستثمر في هذه الحلول مبكرا ستكون أكثر قدرة على مواجهة المستقبل.
إن معركة القرن ليست مجرد صراع على قطرات الماء بل اختبار حقيقي لذكاء البشرية: هل نختار الصدام الذي سيستنزفنا جميعا أم نبني شراكات تجعل من الماء أساسا للحياة المشتركة؟
مصر، التي تحملت عبر آلاف السنين مسؤولية النهر وحضارته تقدم نموذجا لسياسة متوازنة: دفاع صارم عن حقها في الحياة وفي الوقت نفسه دعوة مستمرة للتعاون العادل. هذا الموقف يعكس جوهر الرؤية التي يجب أن تسود: الأمن المائي ليس ملكا لدولة على حساب أخرى بل مسؤولية جماعية تضمن بقاء الجميع.
الماء سيبقى نفط القرن الجديد لكنه يختلف عنه في جوهره فالبشر يستطيعون الاستغناء عن النفط لكنهم لا يستطيعون الاستغناء عن الماء. من هنا تبدأ الحكاية وتنتهي: الأمن المائي ليس قضية ترف أو هامش بل هو عنوان البقاء. ومن لا يُدرك أن معركة القرن قد بدأت بالفعل سيجد نفسه خارج التاريخ حين يفتقد أهم شرط للحياة.