اللغة العربية.. والرواية المصرية في عيدها
يأتي احتفال الأمم المتحدة في ديسمبر من كل عام معنيًا بالاحتفاء باللغة الأم. وهناك في العالم بين 6500-7000 لغة، وهناك لغات انقرضت. وبين هذا العدد من اللغات، هناك حوالي 2000 لغة لا يتحدثها إلا عدد محدود جدًا من البشر لا يتجاوز 1000 إنسان. بينما نجد أن هناك لغات يصل عدد المتحدثين بها إلى أكثر من مليار إنسان، مثل الماندارين الصينية، في حين يتحدث العربية أكثر من 400 مليون إنسان.
ولغتنا الأم هي العربية، بجانب اللهجات المحلية التي لا يمكن إنكار وجودها وتأثيرها. وقد تأثرت العربية باللغات المختلفة في الأمم ذات الحضارة، فأخذت منها. وعلى سبيل المثال، فقد أخذت من الفرعونية أسماء الآلة، خاصة في الزراعة، فلم تكن العربية لغة من يعيشون على النهر، بل لغة أهل الصحراء، لكنها امتدت إلى كل الأقاليم التي دخلها العرب مع بدء انتشار الدين الإسلامي. وهي لغة القرآن الكريم أيضًا، وهي لغة شاعرة كذلك، ولعلنا حتى اليوم نعرف قصائد فطاحل الشعراء العرب مثل إمرؤ القيس وعنترة بن شداد وزهير بن أبي سلمى وعمر بن أبي ربيعة وعروة بن الورد وجرير والفرزدق، إلى آخر هذه الشعرية العربية.
مواصفات اللغة العربية:
تعدّ اللغة العربية واحدة من أقدم لغات العالم، وتتميز بثراء مفرداتها وجمالها وقواعدها اللغوية المتنوعة. فضلاً عن ذلك، فهي طيّعة، قابلة للتطور، شأنها شأن كل لغة تواكب العصر وتراعي مفرداته. غير أنها لا تتخلى عن أصالتها وإن دخلها الغريب من الكلمات، ذلك أنها تسعى، بشتّى الطرق، إلى تعريب كل دخيل طارئ على عالمها، لا سيما أننا في عصر أصبح فيه العالم قرية كونية، بفضل وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام وغير ذلك من الأمور التي قربت المسافات، وربطت بين مختلف أصقاع الكرة الأرضية.
تجربة يحيى حقي:
تعد اللغة حاملة الأفكار وجسد الرواية والقصة والشعر والخطابة، هي التي تحمل أفكار الكاتب ورؤاه ونوازعه. هي الجسر الذي سينقل أفكاره عبرها، واللغة بهذا المفهوم هي القاسم المشترك بيننا، القاسم الذي ينقل أفكار الكاتب والسارد إلى القارئ والمتلقي. ولا يمكن للغة أن تكون جسراً فقط، فأحيانًا تكون هي ذاتها الفكرة.
وسأعود بكم إلى يحيى حقي في هامش “قنديل أم هاشم”. في إحدى طبعات “قنديل أم هاشم”، كتب يحيى حقي هامشًا مضيئًا وعظيمًا، كتعقيب على موقف إسماعيل حين (فقد وعيه، وشعر بطنين أجراس متعددة وزاغ بصره، ثم شبّ وأهوى بعصاه على القنديل فحطمه وتناثر زجاجه، وهو يصرخ: أنا.. أنا.. أنا..).
في أسفل الصفحة، تحت هذا الموقف، كتب الأستاذ في واحد من أروع دروسه وخلاصة تجربته:
(مكثتُ أكثر من أسبوع أبحث عن الكلام الذي ينبغي أن ينطق به إسماعيل في هذا الموقف، وقد أحسستُ أنه يجب ألا يزيد عن لفظ واحد، إذ ليس من المعقول أن ينطق بجملة طويلة وهو في تلك الحال. وأردتُ أن يكون هذا اللفظ معبرًا عن الأنين والرغبة في البوح.. وفي الاستعطاف.. وفي تأكيد الانتماء.. وبينما أنا حائر في البحث عن الكلمة المناسبة، إذ تذكرتُ نصًا كنت قرأته عن حياة الفيلسوف الألماني نيتشه، وبقي منه في ذهني أنه حين أُصيب بلوثة الجنون هبط من بيته الذي كان يقع فوق قمة جبل مرتفع وهو يصرخ: “أنا.. أنا.. أنا”.
عندئذ أدركتُ أن هذه هي الكلمة التي كنت أبحث عنها، لأنها تُجسد كل المعاني التي طلبتها، خاصة وأن حرف النون فيه نغمة الأنين. ولعل الذي قادني إلى تذكر هذا النص أن إسماعيل في هذا الموقف كان هو الآخر قريبًا من الجنون. وهكذا يتأكد اعتقادي بأن الذي يُضفي على النص الأدبي قدرًا من قيمته هو إشاراته الخفية إلى أعمال أدبية أخرى ممتازة، فكأن للأدب كيانا متكاملاً اشترك في تشييده كل مَن سبقونا ومَن يعاصروننا من كبار الكُتاب في كل اللغات.
بنفس المعنى الذي أشار إليه يحيى حقي، أو أقرب إليه، ومعنى آخر وجدته في إبراهيم أصلان. في أعماله كلها تقريبًا ستجده مقتصدًا في اللغة، ملولًا من اللغة الوصفية والسرد المترامي الأطراف. فأعماله مثل مجموعات القصص القصيرة “بحيرة المساء” و”يوسف والرداء” و”وردية ليل” ورواياته “مالك الحزين” و”عصافير النيل” و”حجرتان وصالة” و”صديق قديم جدًا” و”حكايات من فضل الله عثمان” كلها تشي بمهنته كعامل في التليغراف يكتب الرسائل. من هنا أصبحت لغته مقتصدة للغاية، رمزية للغاية، كأنه يكتب شفرة مورس علينا أن نتقبلها ونفكر كيف يمكن للغة العربية أن تكون جميلة. لقد جربت هذه الحيلة اللغوية في روايتي “أسد قصر النيل”، في مجموعة من الصفحات حين استطعت الدمج بين الأدوات الفنية في علم المكتبات والرواية. لا أدعي أني صاحب تجربة عريضة، ولكن هذا العمل تحديدًا كان فسحة عريضة من التجربة الروائية في كل تقنيات ما بعد الحداثة تقريبًا وزيادة.
لقد بذل محفوظ جهدًا كبيرًا لإخراج اللغة العربية من فضائها الهلامي الرومانسي الديني. فقد كانت اللغة السائدة في الرواية من قبله لغة المنفلوطي الغارقة في الرومانسية والبلاغة. كان نجيب محفوظ أول من زجّ بها في الحياة الضاجة النابضة، الصاخبة بتعقيداتها وتحولاتها، ونزع عنها قدسيتها وشحنها بهواء جديد، ومرّغها في تراب الواقع ووحله لتنقل إلينا بدقة روائح العالم وألوانه ومذاقاته (نقلاً عن يمن مونيتور).
كان محفوظ واعيًا تمامًا بمدى أهمية اللغة في الرواية، فهو يقول مخاطبًا يوسف الشاروني في كتابه “رحلة عمر مع نجيب محفوظ”: “المشكلة كانت كيف تطوّع اللغة العربية المجرّدة المقدّسة لتعبّر عن الحياة اليومية.. حين تدخل حارة أو تجلس على قهوة، فإن مشكلة اللغة تعترضك.. أي إنها مشكلة الكاتب عندما يستعمل لغته في مجالات جديدة لأول مرة. لهذا أعتقد أننا تعبنا في مسألة اللغة”.
وهكذا منح محفوظ اللغة العربية نفسًا جديدًا يتفق مع الحداثة العالمية. وكل يوم تسعى العربية إلى التوافق مع كل المعطيات العلمية والحضارية الجديدة، فسلام على لغتنا التي يجب أن نحتفظ بها، وسلام لأرواح العظماء نجيب محفوظ ويحيى حقي وإبراهيم أصلان.