كاتب ومقال

بين السطور| حكايات في طابور الانتظار.. كيف تغير المصريون؟

رضا الشويخي

50 حاجة ممكن تعملها وأنت في طابور الانتظار “الميكروباص” الذي سيقلك إلى خط القطار المسمى “سريع” رغم أنه يستغرق ساعة كاملة تقريبا ليقطع صحاري ووديان، تاركًا إياك في قلب صحراء جرداء، تحولت إلى بنايات شاهقة، تقر الأعين، وتنافس عواصم عالمية، طولًا وعرضًا!

لا أخفيك سرًا أنني لم أعد أتافف من طابور الانتظار الذي يستغرقني 30-60 دقيقة وأنت ورزقك، كما اعتاد المصريون قولها.. مشهد لا أستطيع له وصفًا، غير أنني أراه يعكس أنثروبولوجيا الحياة في مصر، أو بلا فلسفة هو مرآة المجتمع المصري؛ ما بين سيدة توصل ولدها وتطلب أن نأخذه في طريقنا إلى المدرسة الفلانية، وتذهب هي إلى طابور آخر لإيصال أخته الصغرى، وعلى كتفها الآخر حقيبة العمل، التي أكل عليها الزمان وشرب!

طفل صغير، يلتحف مريلته الزرقاء التي تقاطعت خطوطها خلف ظهره، ليبيع بضعة شطائر وساندونشات من طعامنا الشعبي الجميل، وربما مر الوقت طويلا عليه فأمسك بهاتفه يلعب “الثعبان”، قد يرفع ناظريه بين الحين والآخر ؛ ليتأمل الناس مثلما أفعل الآن، تمامًا.

الطابور يتحرك بضع خطوات، ويا لها من أخبار سارة، هؤلاء المئات يسيرون ببطء كما البطة العرجاء، يحمل كلٌّ همه، أو حلمه، لا فارق، فما أصعب الحلم، حتى يصبح على كتفيك همًا مؤرقًا.

ما زالت وجوه الناس تشي بالكثير، إنهم مثلي ربما يضحكون في داخلهم، كيف لا وهم ينتظرون منذ الساعة السادسة والنصف صباحًا، لأجل مجهول قد لا يأتي إلا بشق الأنفس!، وربما يأتي ومعه سائق بصوت أجش: “عايز واحد بس قدام ياخد الكرسيين”، في تصرف يضرب نظريات الاقتصاد برصاصة الرحمة، هو من يحدد الخدمة والسعر والطريقة ولا مفر إلا أن يقبل أحدهم، معتبرًا أنه يتصدق بأجرة الراكب الذي لم يركب، حتى ينتشلنا من طول الانتظار.

هنا تنتهي حكم قاسم أمين حول المساواة، ويتحرك الطابور الوردي بشكل أسرع، في حين نبقى لا نبرح أماكننا، وكأننا على جبل الرماة وبين أيدينا وصية نبي: لا تبرحوا، حتى يؤذن لكم!

تغيرت مصر كثيرًا، غير أنه تغير أشبه بقطع الفسيفساء، مزيج متآلف لألوان البشر، طلاء الوجه وعدمه، ألوان الثياب، شكل الطرحة، تسريحة الشعر، غير أن ثمة اتفاق حول سماعة أذن تكاد تفصلةالشباب عما يدور حولنا، فتارة تسمع ما بات يعرف بأغاني وأخرى صوت عبد الباسط عبد الصمد منسابًا كالماء الصافي، وثالثة حديث لا يخلو من لطيف كلام!

هناك على الناحية الأخرى، ملامح لا تخطئها العين لتمازج حضاري، ما بين لهجة سودانية وأخرى سورية، وثالثة يبدو أنها فلسطينية، يجمعنا الانتظار، ربما يكون الشفاء منه أننا ندرك لماذا ننتظر، وماذا ننتظر، بخلاف الكثير من الأشياء التي ألفناها في عالمنا العربي، من انتظار السراب!

تواردت إلى ذهني بلاغة ذلك الشاب الذي وصف أباه “الذي يعمل حلاقًا” بأن الرؤوس تنخفض بين يديه، وباتت بلاغته مضرب المثل، حينها قفزت إلى ذهنية بعض قواعد التسويق اللئيمة حين تريد بيع الماء لثلاثة عملاء من بيئات مالية مختلفة، فتخاطب الفقير على أن شرب الماء ليس رفاهية وأن سعرها اقتصادي للغاية، فأن يشرب أرخص وأوفر من تكون الحصوات والحاجة إلى عملية جراحية، والفئة المتوسطة أن تشرح لهم الانتعاش الذي يحدث نتيجة لشرب الماء، والفئة الأغنى حينما تحدثهم عن العناصر الموجودة بالماء، وأنها صممت خصيصًى لتحملها بسهولة في “حقيبة الجيم”!

الأمر ذاته يطاردني وأنا أتفحص هندام بعضهم، ربما تكون عادة قديمة، وربما تأثرًا بما يثيره البعض حول الاستنباط من مظهر الشخص، غير أنني نحيت ذلك جانبًا، فكلنا الآن في “الهواء” سواء.. وهذه نتيجة لا يتسع المقام لتناول أسبابها.

رغم كل ذلك، ما زلنا نطارد الابتسامة أي مطاردة، نبحث عنها في سم الخياط، أو “فتحة الإبرة”، نفتش عن النكات في كل ركن، تنتقل الضحكات كأنها العدوى، وما أجملها من عدوى، سبحان الله! كأن المصريين باتوا يقدمون ورقة العلاج السحرية، اضحك، حتى لو كنت مفلسًا، اضحك حتى لو كنت مريضًا، اضحك لأي سبب يستدعي الضحك، حتى الكلمات اللوذعية التي لطالما ترددت على أسماعنا قد اختفت، فلم نعد نسمع عبارة “الضحك من غير سبب قلة أدب” ولكن ثمة اتفاق أننا بحاجة إلى أن نضحك ملء قلوبنا وعلى اتساع سمائنا!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى