آثار فيضانات هائلة تمنح الأمل في وجود بقايا حياة على سطح المريخ
لعقود طويلة، كان التصور المعتاد عن المريخ بسيطًا وواضحاً للغاية، ففي الوقت الحالي هو كوكب قاحل ومتجمد إلى درجة الجفاف، مصبوغ بلون الصدأ الأحمر، أما قبل دهور، فكان أكثر دفئاً ومياهاً، ويزخر بالحياة البحرية، وفيه أنهار وبحيرات ومحيطات، بل ربما وُجِدت الحياة على سطحه، وبذلك تصير هذه النظرة للمريخ أقرب إلى عملة معدنية، لها وجهان، أحدهما أزرق والآخر أحمر.
ولطالما سعى العلماء إلى فهم أسباب هذا الانقلاب الكوكبي العظيم من هذا الوجه إلى ذاك، لكنَّهم كلما أمعنوا النظر، اتضح أكثر أنَّ هذه النظرة بوجهيها المتناقضَين تناقضًا صارخًا لا يمكن أن تكون صحيحةً بالكلية؛ فالمريخ، مثل كوكب الأرض، كان وسيظل عبارة عن عوالم عديدة مختلفة، وربما كان من الأفضل أن نرى قصة صلاحيته للحياة لا باعتبارها عملية تحولٍ عالمية واحدة بين الوجهين، بل باعتبارها سلسلةً من القفزات عبر مزيج إقليمي من الظروف المتباينة المعقدة والمتغيرة.
مناطق دافئة وأخرى باردة على سطح المريخ
وعن ذلك يقول مات بالم، من الجامعة المفتوحة في إنجلترا: «من السهل للغاية أن ترى كوكب المريخ وكأنه وحدة واحدة في أي نقطة زمنية، لكنَه كان يتضمن مناطق دافئة وأخرى باردة، ومناطق مبتلة وغيرها جافة، كل ذلك في آنٍ واحد»، وفق ما أورد موقع «للعلم»، النسخة العربية من مجلة العلوم الأمريكية «ساينتفك أمريكان».
وتوضح ورقةٌ بحثية نُشِرت في دورية «العلوم»، هذا الأسبوع، هذه النظرة الأدق إلى الكوكب بتفصيلٍ مذهل، حيث تقدم نتائج أولية مبنية على استطلاعٍ بصري أُجري في موقع «أوكتافيا إي. باتلر»، موقع هبوط مركبة «بيرسيفيرانس» الجوالة لتابعة لوكالة ناسا، والتي هبطت في فوهة «جيزيرو» في فبراير.
اختار مخططو البعثة فوهة «جيزيرو» لأن الصور المدارية أشارت إلى أنَّ فيها دلتا نهرية قديمة، ونظام بحيرات نحتته المياه المتدفقة قبل مليارات السنين، والآن، لم تؤكد التحليلات التي أجرتها مركبة «بيرسيفيرانس» صحة هذا الأمر فحسب، بل كشفت عن وقوع أحداث قصيرة الأجل، انطوت على تغيرات مفاجئة في تلك المنطقة.
اقرأ أيضاً: الكشف عن تصميم لأول مدينة مستدامة على سطح المريخ
نهر هائل تدفق على المريخ قبل 3.7 مليار سنة
بقيادة باحثين دوليين، منهم نيكولاس مانجولد، من جامعة «نانت» بفرنسا، استعان فريق الدراسة بصورٍ التقطتها المركبة «بيرسيفيرانس»، وذلك لفحص حجم الصخور المتناثرة حول المركبة، والمغروسة في طبقات الرواسب على الأسطح الصخرية والجوانب المكشوفة للجرف على بُعد عدة كيلومترات.
كما فحص الفريق اتجاه تلك الصخور وتوزيعها، وتُظهر النتائج أنَّه قبل 3.7 مليار سنة، كان هناك نهر يتدفق إلى هذه المنطقة بالفعل، بسرعة تبلغ عدة أمتار في الثانية، وكان يصب في بحيرة تملأ الفوهة البالغ عرضها 45 كيلومتراً، حتى عمق 100 متر في بعض مواضعها.
لكن تحليل الفريق كشف أيضاً عن تباينات غير متوقعة في قاع البحيرة، الذي بدا وكأنَه يزيد أو يقل بضعة أمتار بين الحين والآخر، على الأرجح نتيجةً للتقلبات الموسمية، ويقول مانجولد عن ذلك: «كانت هناك بحيرة، لكن القصة مختلفة عما توقعنا».
أكثر عناصر هذه القصة إدهاشًا حتى الآن لوحظَت وهي تبرز من الرواسب دقيقة الحبيبات في الدلتا، عبارة عن «جلاميد صخرية» عرضها يزيد على المتر، تآكلت حتى صارت مستديرةً وناعمة، بفعل انتقالها وتقلُّبها لمسافات طويلة عبر نهر «جيزيرو»، لكنَها مع ذلك أضخم بكثير من أن يحركها أي نهر.
«جلاميد» في غير أماكنها تكشف حركة المياه
ويقول مانجولد عن تلك الجلاميد: «ينبغي ألا توجد هنا»، وتفسير وجودها قد يكون أن المنطقة تعرضت في مرحلة ما لفيضان هائل، وهذه الجلاميد وقطع الركام الأخرى حملتها المياه المتدفقة بقوة لمسافات طويلة، تمتد بطول مجرى النهر، وحتى البحيرة القديمة.
ورغم أن أسباب حدوث مثل هذه الفيضانات الهائلة مازالت غامضة، إلا أن الأستاذ بجامعة «نانت» الفرنسية يلمح إلى أنه على كوكب الأرض يمكن أن يتسبب ذوبان كمياتٍ كبيرة من الجليد أو ترسُّب الرواسب الثقيلة في مثل هذه الظاهرة.
كيرستن سيباخ، من جامعة «رايس»، ترى أن هذه الجلاميد والرواسب المحيطة بها، يمكن أن تمثل فرصةً رائعة لدراسة المواد التي تكونت في مناطق أبعد من محيط فوهة «جيزيرو» بكثير، وأضافت: «قد تتمكن بيرسيفيرانس من جمع عينات لصخور كانت في مناطق بعيدة جداً بالقرب من منبع النهر»، مُشيرة إلى المهمة الرئيسية للمركبة، وهي جمع العينات من أجل إعادتها في المستقبل إلى الأرض.
اقرأ أيضاً: هل حقا أصبح من الممكن تنفس الأكسجين على المريخ؟!
تيارات ضخمة من المياه حفرت أودية المريخ
وقدمت دراسة سابقة نشرتها مجلة «نيتشر» لعالم الجيولوجيا في جامعة تكساس، تيموثي جوج، وصفاً أكثر دقة لفيضانات محتملة على سطح المريخ، حيث أظهرت أن ربع شبكات الأودية التي نراها على الكوكب الأحمر اليوم، ربما تكون قد تشكلت في فترة زمنية قصيرة للغاية، بفعل تيارات ضخمة من المياه، اندفعت بقوة عبر السطح، خلال فيضانات جارفة.
ويرجح «جوج»، الذي قاد فريق الدراسة، أنه «بدلاً من حفر هذه الأودية على مدار عشرات أو مئات الآلاف من السنوات، ربما استغرق تشكيلها بضعة أسابيع أو أشهر، وقد تصل إلى بضع سنوات، الأمر الذي يشكل تغيراً طارئاً من الناحية الجيولوجية إلى حد كبير».
ويعتقد العلماء أن تلك الفيضانات «الكارثية» ربما تسببت في هلاك أي كائنات حية في طريقها، ولكنها في ذات الوقت تمثل فرصة لعلماء البيولوجيا الفلكية للبحث عن بقايا لتلك الكائنات، خاصةً وأن ظروف بحيرة «جيزيرو» ونهرها تبدو مواتية لنشأة الحياة.
ويأمل العلماء في أن تكون مياه الفيضانات المتدفقة ربما حفظت أدلة على وجود مثل هذه الكائنات، وساعدت في حمايتها من الظروف القاسية على سطح الكوكب الأحمر، التي استمرت لدهور طويلة، باستخدام غطائها الواقي، المتمثل في الرواسب التي تراكمت في تلك الأودية على نحو مفاجئ.
اقرأ أيضاً: لؤي البسيوني.. فلسطيني يصل إلي المريخ فما قصته؟