اليوم أتممت عامي التسعين، أجل! تسعون عاما وأنا في هذا العالم الغريب الذي يفرض فيه الإنسان قوانينه التي تخترق قوانين الطبيعة لتفسدها، لقد قررت في هذا اليوم أن أكتب مذكراتي، أو إن صح التعبير مقتطفات من حياتي، فعلى الرغم من ذاكرتي الضعيفة التي لم تعد تسعفني في الكثير من المواقف، فتضعني في مواقف محرجة حين لا أتذكر الأشخاص، والأشياء، والأسماء، والأماكن، إلا أنها في بعض الأحيان تجود علي بالكثير من الذكريات وأحيانا تضن علي بها، وكثيرا ما تأخذ الأحداث القريبة ويستحيل إعادتها، فهي تشبه موج البحر، ففي بعض الأحيان يأتي بخير البحر فيلقي به على الشاطئ، وأحيانا لا يأتي بشيء، وأحيانا يأخذ معه ما على الشاطئ فيستحيل استرجاعه، واليوم ذاكرتي على وفاق معي، فقد جادت علي بالكثير، لذا أمسكت بقلمي ودفتري لأسطر ما اعطتني إياه.
في البداية شعرت بالذكريات تتدفق وكأنها غيث أتى من بعد ليحيي أرضا قاحلة فينبت بها الزرع، فرحت أبحث عن دفتري الذي لم أجده إلا بعد مشقة وعناء وبمساعدة ذلك الصغير الذي يبلغ من العمر سبع سنوات، فعندما وجده قال: ما هذا يا جدتي؟! قلت: دفتري اريد تدوين بعض الملاحظات، فنظر إلي وقال: ثم تنسي أين وضعتيه ثم تبحثين عنه من جديد، لماذا لا تدوني ملاحظاتك على هاتفك الذكي؟! إنني لا أجيد استخدام التكنولوجيا الحديثة التي يستخدمها أولادي، ويجيدها أحفادي وأولادهم الصغار الذين لا تتعدي أعمارهم عشر أعوام.
أمسكت بقلمي متحدية الألم الذي شعرت به في يدي الناتج عن تيبس المفاصل، فشعرت بسعادة تغمرني لا أعلم سببها، ألأنني أكتب؟! أم لأنني أتحدى الألم؟! فأرجعت السبب للتحدي، فأنا طالما تحديت الظروف، والأوضاع، فكان ذلك يشعرني بسعادة كبيرة، وفخر يكاد أن يصل بي حد الغرور والخيلاء.
دائما ينتابني هذا الشعور حين اتحدى شيئا ما يقهرني، فأتمرد على تلك الأصفاد لأحطمها واتحرر، فكانت أولى تحدياتي منذ ثمانين عام، أي في طفولتي، لم أكن أعلم وقتئذ لماذا يجب علينا أنا وأخواتي تلبية كل احتياجات أخي وخدمته على الرغم من أنه أصغرنا، فقد كان ذلك الأمر يزعجني كثيرا، فسألت يوما جدتي عن ذلك الأمر، فأجابتني بتعجب، وكأنه أمر بديهي فكيف يحق لي أن أسأل عنه فقالت: لأنه فتى، بينما أنت فتاة، كانت تلك الإجابة تغضبني كثيرا، لماذا يميز إنسان على سائر البشر؟! لماذا أرى جيراننا وأقربائنا يسعدون إذا أنجبوا ولدا، ويحزنون إذا أنجبوا بنتا؟! لماذا يفضل الولد على البنت؟! ويميز الرجل على المرأة؟! أشياء كثيرة كان يأباها عقلي الصغير جعلني الزمن أتأكد من أنني على حق.
تمرد آخر تلاه بسنوات ليست بكثيرة، حين قرر أهلي أن اترك المدرسة لأتزوج وأنا عمري لم يتجاوز الخامسة عشر، حينئذ رفضت ذلك القهر بشدة ولكن لا حياة لمن تنادي، فطلبت من جدتي أن تساعدني، فطلبت من أبي أن يستجيب لرغبتي على الرغم من أنها لا توافقني الرأي، ولكنه لم يستجب إلا بعد تدخل جدي، وبالتأكيد السبب معروف لأن الطلب جاء من رجل، ولكني في ذلك الوقت لم أكن أفكر إلا في أنني سوف أكمل دراستي ولن أتزوج، ولكني رحت أفكر لماذا يسعى الأهل لزواج الفتاة وكأن الزواج هو أعظم إنجاز قد تقوم به على مدى حياتها؟!
لماذا جميع مشاكل الفتاة لابد لها أن تحل على يد رجل؟! لماذا لا تربى الفتاة على أنها إنسان باستطاعتها الاعتماد على نفسها لأنها ذات عقل مفكر لا تقل عن الرجل؟! حتى هذه اللحظة لا أعلم إجابة شافية لهذه الأسئلة، لأننا حتى يومنا هذا مازال ذلك الفكر قائم، على الرغم من أن المرأة اليوم أصبحت حاصلة على أعلى الدرجات العلمية، وشغل مناصب كبيرة، إلا أن المجتمع مازال يرفض الاعتراف بأنها قادرة على تدبير أمورها دون الحاجة إلى الرجل، على الرغم من أن المرأة قادرة على تحمل مسئولية أسرة كاملة، إنجاب أطفال، وتربيتهم، وتعليمهم، بالإضافة إلى الإهتمام بشؤون البيت، وفي عملها تكون مسئولة عن تقديم العمل في أفضل صورة، فكيف لها ألا تستطيع أن تدبر أمورها، وتكون مسئولة عن نفسها؟!
لقد أصبح يشغل تفكيري أمر ما، وهو أمر المرأة المتعلمة، والمرأة العاملة التي تشعر وتعي جيدا حقها الضائع وتطالب به، ورحت أتساءل هل حق المرأة ضائع حقا؟! وهل من أضاعه هو الرجل؟! وتوصلت إلى أن الأمر صحيح، ولكن ليس كل إمرأة مهدور حقها، وليس كل رجل يقهر المراة، وليست كل إمرأة ضائع حقها قد أضاعه رجلا، إن الرجل الذي يفهم تعاليم دينه جيدا، وينفذها بكل إدراك ووعي، ويتقي الله ويخشى عقابه، لن يضيع حق امرأة، وكذلك المرأة التي تعي تعاليم دينها فهي تعلم حقها بكل وضوح ، وبالتأكيد فإنها تشعر بالحرية التي منحها الله لها.
ولكن ما أتعجب منه الآن هو كيف تضيع المرأة حقها، ثم تصيح مطالبة به؟! أذكر صديقة لي كانت ذات شخصية مميزة وفكر ناضج، وبعد زواجها لم تعد لها تلك الشخصية وذلك الفكر، فلقد ألغت كل ذلك ليندثر داخل شخصية وفكر زوجها، وأذكر أخرى لم تعد ترغب بأن تنادى بلقب عائلتها بعد زواجها، بل كان لقب زوجها هو الأحب إليها، وإلى الآن تحدث مثل هذه الأمور.
تزوجت وأنا في الثانية والعشرين من عمري بعد أن أنهيت دراستي، وفي زمني ذلك كنت قد تقدمت في العمر كثيرا، بالإضافة لذلك فإنني لم أنجب إلا بعد عامين، فإن ذلك أغضب أهلي كثيرا، ولأنني كنت الوحيدة من بين البنات في محيطنا كنت امتلك تلك الأفكار، وأفعل تلك الأفعال فكنت أعرف بين الجميع المجنونة المتمردة التي تعرقل كل الأمور، والتي تريد أن تصنع لها عالما خاصا يسير عكس عالم البشر، ولكني لم أكن الوحيدة في العالم التي أدركت الحقائق وتمردت على القيود، فلقد كانت هناك نساء رفضن القهر، وسعين نحو الحرية، والحرية التي نعنيها ليست الحرية في الثياب، وإقامة صداقات بين الرجال والنساء، وغير ذلك مما تدعين صاحبات الحرية في هذا العصر، بل الحرية التي منحها لنا الإسلام، والحقوق التي وضحها لنا.
وعلى الرغم من كل الصراعات التي خضتها من أجل أن اتحرر من قيد قُيِّدتُ به اسمه إنني امرأة، وتربيتي لإبنتي بالشكل الذي أتمناه، فلم أميزها على شقيقها، وكنت أترك لها حرية الرأي في كل ما يخصها، وتشاركنا الرأي أيضا في أمور الحياة، إلا أنها أصرت على الزواج في سن مبكر، فقد تزوجت في الثامنة عشر، وتركت دراستها وهي على يقين تام بأن تلك هي الحياة الآمنة، ولأنني لم أعتد فرض رأيي على أبنائي بالقوة، فقبلت ذلك على الرغم من أنني لم أكن راضية، صحيح أنني أخطأت كما أخطأت هي، وقد أدركنا ذلك الخطأ بعد طلاقها، ومنذ ذلك الحين أصبح المجتمع ينظر إليها نظرة قاسية.
إن ذاكرتي لم تعد تسعفني أكثر من ذلك، فقد توقفت بي عند لحظة قاسية، فلقد أغلقت دفتري وألقيت عليه القلم، ورحت أحرك أصابعي ببطء، وهنا أتت إلي حفيدتي لتعرف رأيي في فستانها الجديد، وقالت إنها ابتاعته من أجل حفل خطبة ابنة جارتها، فتعجبت وظننت أنني أهزي وقلت لها: أليس هذه الفتاة صديقة ابنتك؟! فضحكت وقالت: لا! بل شقيقتها الكبرى التي تبلغ من العمر ثلاثة عشر عاما، فقلت لها بعجل: وكم عمر خطيبها إذن؟! فقالت: يكبرها بعام، ثم أردفت قائلة: إن الزواج سوف يتم بعد خمسة أعوام أو ستة، يا له من وقت طويل، كم كنت أتمنى أن يكون في أسرع وقت ممكن، حتى تتخلص تلك الفتاة من كابوسها المزعج الذي يصيبها إثر مشاجرات والديها، والذي ينتهي بضرب والدها لوالدتها ضربا مبرحا كثيرا ما تنتقل إلى المستشفى على إثره، وهنا أيقنت حقا بأن لا حياة لمن تنادي.