كاتب ومقال

إبداعات كلمتنا| “مملكة الثلج”

تثاءب الملك بكسل بالغ وهو يجذب الغطاء ويدفن رأسه تحته رافضًا الاستيقاظ، لا شئ يعكر مزاجه أكثر من الإستيقاظ المبكر قبل أن يتم مشاهدة أخر لقطة في حلمه الليلي المعتاد، عشقه للنوم لا يفوقه شئ ولا يحمل عداوة لأحد، أكثر من شخص يوقظه دون رغبته..

حتى الملكة نفسها بكل سلطاتها عليه وسطوتها المعروفة في كل أرجاء المملكة، تخشى إيقاظه وتتجنب فعل ذلك إلا في الضرورة القصوى، ولا توجد ضرورة قصوى أكثر مما حدث هذا الصباح، غابت البطاريق عن العمل ولم يحضر منهم أحد، أمير الأعمال والخدمات تفاجئ من عدم حضورهم وهرول نحو القصر بفرع ودهشة..

أخبر قائد الحرس بالأمر وطلب مقابلة الملك على الفور، تفحصه قائد الحرس باستهجان واضح وهو يجذبه من ذراعه ويأمره بالجلوس وانتظار وصول الوزير، الوزير رغم سهراته الليلية حتى قرب الصباح، إلا أنه دائمًا يستيقظ قبل الملك بوقت طويل..

سمع القصة من أمير الأعمال وهو يفرك ذقنه مدعيًا التفكير قبل أن ينفجر في وجهه ويصيح متسائلًا بغضب، كيف سمح بحدوث ذلك وهى مسؤوليته الأولى والوحيدة، الأمير بفزع يُقسم أنها المرة الأولى لتخلف البطاريق عن العمل، لم يحدث في تاريخ المملكة أمر مشابه من قبل..

منذ قرون ممتدة لم تتأخر قبيلة البطاريق عن الاستيقاظ المبكر ومباشرة عملها بجدية مطلقة، تجشأ الوزير بصوت مقزز بعد أن شرب نصف قارورة ممتلئة بماء البحر، ثم لملم رداءه الطويل وتحرك بخطى جادة نحو جناح الملك، الوقت مازال مبكرًا عن موعد استيقاظ الملك..

طلب مقابلة الملكة على وجه السرعة، وصيفة تأمر وصيفة وثالثة ورابعة حتى وصيفة الملكة الخاصة، الملكة مازالت في مسبحها الخاص تداعب الأسماك الصغيرة الملونة، تفتح فمها بمزاح وتحبس العشرات منهم بداخل فمها وهى تضحك بسعادة من صخب حركتهم، ثم تبصقهم وتغطس تحتهم تبحث عن مجموعة جديدة..

أخرجتها الوصيفة عن متعتها الصباحية بصوتها الرفيع الحاد وهى تخبرها بطلب الوزير، تأففت ولطمت الماء بذيلها بعنف وحنق وأذنت له بالدخول، لم تفهم في بداية الأمر ما المشكلة، لم تستيقظ البطاريق!، فلتذهب البطاريق للجحيم أو لتأكلهم الحيتان..

قاوم الوزير رغبة عارمة في التجشؤ وشرح لها هول الأمر، بالمملكة قبيلتان خارج أسوار قصر الملك، قبيلة البطاريق وتحمل وحدها عبء العمل، وقييلة كلاب البحر ومهمتها في المملكة إسعاد الملك وصنع البهجة والألعاب، يوم بلا بطاريق.. يعني يوم بلا عمل، بلا طعام بلا ماء يملأ الأواني بلا حطب يشعل مدفأة القصر العملاقة..

الأمر جلل ولابد من قرار حاسم من فم الملك نفسه، أمير الأعمال وقائد الحرس ينتظروا صدور التعليمات اللازمة لحل المسألة، الخبر انتشر في كل أرجاء المملكة قبل أن توافق الملكة وتستجيب لطلب الوزير وتقبل ايقاظ الملك قبل موعده..

تجمعت كلاب البحر حول القصر ينتظروا حل المشكلة، استيقظوا جميعًا على الخبر ولم يتناول أحد منهم ولو سمكة صغيرة، البطون فارغة والرؤوس متطلعة والأعين محدقة والفزع من الجوع يسيطر عليهم، استيقظ الملك بعد معاناة بالغة للملكة وخوف من أن يبطش بها ويعاقبها على جرم ايقاظه..

توسط الديوان وسمع من الجميع شهادتهم، صاح بغضب عارم في قائد الحرس طالبًا منه سرعة احضار كبير قبيلة البطاريق، العجوز صاحب الأذرع القصيرة دخل الديوان مفزوع وهو يقفز على قدميه القصيرة محاولًا اثبات اهتمامه أمام الملك..

بصوت متلعثم وأعين زائغة أخبر الملك بقصة قبيلته، صغار البطاريق قرروا التوقف عن العمل، كل صباح يعملوا بشقاء حتى حلول الليل ولا أحد يشعر بهم أو يفكر في مكافأتهم وشكرهم، لا راحات ولا شئ على الاطلاق مقابل عملهم، وحدهم يحملوا عبء العمل وقبيلة كلاب البحر لا تفعل شئ سوى اللهو وإلتهام السمك الطازج..

أمر ملكي صارم بتجمع المملكة بكاملها عن بكرة أبيها أمام البحر، كلاب البحر والبطاريق ومعهم الحيتان، الملك من فوق تبة مرتفعة من الثلج وقف بهيبة واضحة وهو يصيح فيهم جميعًا يذكرهم بتاريخ المملكة، لم يرث شئ غير ما هم عليه اليوم، البطاريق تعمل وكلاب البحر تلهو وتلتهم السمك..

كلما توقف للتنفس صاحت كلاب البحر وصفقت بيدها بصوت مجلجل يزلزل الثلج من تحت الأقدام، البطاريق تريد الإعتراض تبحث عن عرض شكوتها، لكن أياديهم القصيرة لم تمكنهم من التصفيق، حاولوا.. وحاولوا دون جدوى..

صوت تصفيق كلاب البحر مرتفع وصاخب ولا شئ يضاهيه، الملك يتمكن من الحماس كلما سمع صوت التصفيق، لأول مرة يشعر بمتعة تضاهي متعة النوم ومشاهدة الأحلام حتى نهايتها، اضراب البطاريق أهداه هذا الشعور الممتع للغاية..

الحيتان تقفز في الماء وتغرق الجميع بالماء في مشهد جلل جعل البطاريق تشعر بالخوف والفزع، كبيرهم يحدثهم بخوف أن غضب الملك أشد قسوة من العمل كل صباح دون انقطاع، حتى أنه أشد قسوة من رؤية كلاب البحر تمرح وتلهو وتلتهم السمك وتكتفي فقط بالتصفيق في ديوان الملك كل مساء وهم يقدموا ألعابهم له وللملكة لإمتاعهم..

الصغار شعروا بالإحباط وهم ينظروا لبعضهم البعض، كأنها المرة الأولى التي يلحظوا فيها أن كلاب البحر وحدهم يمكنهم التصفيق!، تحول الإضراب في طرفة عين لحفل صاخب لتحية الملك وإعلان الولاء له وللمملكة..

بصوت جهوري صاح الملك فيهم جميعًا يأمرهم بالعودة لما كانوا عليه ونسيان أمر هذا اليوم، صوت التصفيق لم يتوقف أو يخفت حتى عاد الملك لجناحه يشعر بمتعة فائقة ويكافئ نفسه على حكمته بالرجوع مرة أخرى للنوم وإكمال الحلم.

بقلم
أحمد عبد العزيز صالح

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى