إبداعات كلمتنا| “عناية إلهية”
خيّم الحزن على كل أهل البلد فور سماع خبر وفاة الشيخ محروس، العجوز كان مثل نسمة صيف باردة، أكثر من ثمانون عامًا بين أهل البلد ولا يذكر أحد على الإطلاق أن شاهد وجه الرجل عابثًا أو غابت إبتسامته إلا عند رحيل زوجته قبل عشرون عام..
حضر أبناءه الذكور من المحافظات البعيدة لدفن العجوز وأخذ العزاء، كل منهم يعيش في مكان بعيد سعيًا وراء لقمة العيش، نساء البلد بملابسهم السوداء القاتمة إفترشوا أرض بيت محروس يواسون إبنته الوحيدة الست عناية..
عناية صاحبة الخمس عقود تجلس بينهم القرفصاء برأس حزين مدفون بين ركبتيها، بعد موت محروس أصبحت وحيدة بلا رفيق أو ونيس، مات الأب والأخوة مغتربون وهى لم تتزوج..
عناية رغم كل ما تحمله من رقة وطيبة لم يطلبها أحد للزواج، تخطت الخمسين ببضعة أعوام ومازالت عذراء، لها قلب الملائكة وحنان يظهر بمجرد سماع صوتها وود حديثها، لكنها تحمل ملامح الرجال واستواء أجسادهم، لها وجه يطابق وجه أبوها صاحب الجسد النحيل شديد السمرة، الفرق بينهم الوحيد، تلك الطرحة السوداء التي تحيط رأسها وذلك الوشم الباهت اللون فوق ذقنها.
عرض عليها أخوتها أن تحمل حاجيتها وتذهب مع أحدهم للعيش معه برفقة زوجته وأولاده، فقط كانت ترفض وتصر على الرفض متمسكة بلوعة بالغة بالبقاء ببيتهم القديم وسط جدرانه المنخفضة الإرتفاع السوداء اللون بسبب طوبها الطيني..
عناية لم تخرج من البلد ولو مرة طوال حياتها، تستيقظ مع آذان الفجر وتبدأ يومها برعاية بقرتها وعنزاتها ودجاجتها ثم تجوب البلد بهمة ونشاط وهى لا تتواني لحظة عن مساعدة أي سيدة أو جارة،
كل الصغار يحبونها ويقصدونها بشكل يومي للجلوس معها وهى تطعم الدجاجات وتقص عليهم الحواديت..
لها قدرة متفردة في نسج القصص والحكايات بصوتها الودود الحاني، حتى الكبار يتذكرون طفولتهم وقصصها ويحملون لها الحب والتقدير، الحزن مضاعف والكل يشعر بالرثاء نحو عناية، رحل إخوتها وصارت وحيدة لا يؤنسها غير بقرتها وعنزاتها والدجاجات..
شاحبة شاردة لا تجف دموعها ولا يطاوعها لسانها على قص المزيد من الحكايات، الصغار بوفاء بالغ يجلسون معها ويتابعون بأنفسهم وضع الطعام لرفقاءها بدلًا منها، لولاهم ولولا وجودهم لما إستطاعت أن تتخطى حزنها وإعتياد رحيل الشيخ محروس..
فقط يؤرقها الغروب، الغروب يعني ذهاب الصغار وإغلاق الباب ومكوثها وحيدة حتى بزوغ الفجر، ساعات طوال تمر كأنها سنوات ولا تملك شئ غير وضع يدها فوق خدها والشرود..
عام كامل على رحيل الشيخ والزيارة الأولى لأخوتها لعمل السنوية ومعاودة عرضهم عليها للذهاب مع أحدهم، عناية ليست من هذا النوع الذي يمكنه قبول السفر وترك البيت والبلد، كأنها شجرة عظيمة الجذور لا يمكن نقلها إلا بقطع جذورها، صحبة الصغار وقص الحكايات عليهم هو عالمها الخاص المحبب لها..
الشيخ فرج رفيق العجوز الراحل يطرق بابها ويجلس بجوارها يطمئن على أحوالها ويحتسي الشاي الغامق المعتم من يدها ثم يزف لها خبر رغبة جابر الخفير أن يتزوجها، تجمدت ملامحها لثوان قبل أن تنفجر ضاحكة، الخبر بالنسبة لها لا تراه غير دعابة قدرية لا محل لها من الإعراب..
عناية صاحبة ملامح الذكور يأتيها العريس وهى على مشارف الستين من عمرها، يا لها من دعابة محزنة أدمت قلبها، لولا وفاة زوجة جابر الخفير الفقير لما فكر في الزواج منها وهى تكبره ببضعة أعوام، من أفضل من عناية لتكون زوجة له وترعى أبناؤه..
رفضت وإرتبكت ووحدها بعد الغروب بكت بحرقة وهى تخشى أن يتم الأمر وتتزوج، تتزوج!.. كيف تتزوج بعد كل هذا العمر؟! هل بإمكان دجاجتها الطيران والتحليق في السماء؟ الكل يُلح عليها وحضر إخوتها وكلهم يرون في زواجها من جابر عدالة إلهية وهدية لها من السماء..
تدخل دنيا وتحمل لقب زوجة وتجد من يؤنس وحدتها، عدة ليال متتالية وبعد الغروب تجلس مع دجاجتها تحدثهم عن مدى خجلها من الزواج، كيف ستكون حياة جابر معها وهى لها ملامح وجسد الشيخ محروس، الزن على الأذان أشد من السحر، عشرات من نساء البلد ألحوا عليها أن توافق وتقبل الزواج من جابر..
الزواج بعد ثلاث ليال، حديثها مع دجاجتها أصبح أكثر توترًا ولا ينتهى حتى الصباح، في الغد يحضر أخوتها وبعد الغروب يتم الفعل وتصبح زوجة جابر الخفير، جلست القرفصاء وسط الدجاجات مرتعبة بجسد مرتجف..
يد الشيخ محروس تربت على كتفها بعطف وحنان، تنتفض وترتمي بين ذراعية وتبكي وتنتحب وهى تخبره أنها خائفة مرتعبة خجلة من الزواج، يضمها بشفقة ويقبل رأسها كما كان دائمًا يفعل، هدأت بين ذراعيه وإبتسمت وهى تسمعه يهمس لها أنه جاء ليصحبها معه، ضم يدها بقوة لا تخلو من حنان وإرتفع صياح الدجاجات ورحلت معه وعلى ملامحها التي تشبه ملامح الرجال.. ابتسامة راحة ورضا.