إبداعات كلمتنا| “قفص بلا عصفور”
الجلسة صاخبة في ركن الشلة الخاص بهم منذ أكثر من خمسة وعشرون عام، كعادتهم يتبادلون النكات ويعج المكان بصوت ضحكاتهم المجلجلة، جلستهم الأسبوعية بشكل المعتاد المتكرر دون زيادة أونقصان..
الفارق الوحيد أن آدم يجلس وسطهم لأول مرة عابث الوجه لا تستطيع نكاتهم وقفاشتهم عن ذكرياتهم القديمة العبور من أذنه والوصول لعقله ومداعبة مركز البهجة بداخلها، حالة الجمود والعبث المرسومة على وجهه لا يخطأ قراءتها أحد، صانع البهجة ومحرك سير أحداث الجلسة، يجلس منزويًا شتخصًا بصره غارق في الشرود حتى أذنيه..
أحيانًا يبدو كاتمثال من الصوان، وأحيانًا أخرى يبدو كشخص يجلس في سرادق عزاء متشح قلبه بسواد الألم والحزن، عقله مشتت وبرأسه فوضى تفوق في صخبها فوضى خروج تلاميذ صغار من مدرسة في منطقة شعبية، منذ ما حدث بينه وبين ناهد وهو على هذا الحال ولا جديد غير المزيد من شحوب وجهه ونقص وزنه وتضاعف علامات اليأس والحزن على ملامحه..
عنيدة متعجرفة لم تسمع صوت نداءه مئات المرات أن تتراجع عن موقفها وتتجاوز ما حدث بينهم وتتمسك بما كان بينهم من حب امتد لسنوات، كلما اقترب منها خطوة.. هرولت مبتعدة خطوات، تُصّر على عقابه والإنتقام منه بكل قسوة وهى تضحك بفرحة كلما رآت عذاباته وحسرته..
تجلس بالساعات تهاتف صديقتها المقربة منال، تدير شئون حياتها وقلبها ومشاعرها وناهد منقادة مطيعة لا تعارض لها خطة ولا ترد لها أمر أو نهي، فقط احيانًا بعد أن يباغتها حلم في منامها يذكرها بما كان بينها وبين آدم، تستيقظ تعاني من الاشتياق والحنين، تفكر أن تهاتف آدم وتعتذر له وتقر بخطأها وتطلب منه السماح..
لكنها في كل مرة تتراجع وتهاتف منال لتستقوي بكلماتها على فوران مشاعرها،
– بس انا بحبه اوي يا منال ومش قادرة على بُعده عني
– بس يا خايبة.. ده صنف نمرود
اهو انتي دايمًا كده تمدي ايدك في الكيسة السودة وتطلعي رجالة
كلامها يطهرها من مشاعر الاشتياق والرغبة في الرجوع لما كان، نصائح منال مضمونة ومُجَربة ولا يستطيع أحد التشكيك في صحتها وحتمية نجاحها، تطلب منها الإنطلاق.. التحليق في سماء الحرية بأجنحة عملاقة والطواف في براح الكون الفسيح..
تُعدد مصادر السعادة ولا تتوقف فوق زهرة واحدة، أن تنطلق وتعدو في حديقة الزهور وتستنشق مختلف الروائح، لماذا آدم؟!، خطواته في الحياة بطيئة متعثرة، لماذا تقبل تلك الحياة الخالية من تحقيق الأحلام السريع..
ترهو منال أمامها بزوجها الجديد ووجاهته وحظوته المعروفة للجميع، تطلب منها صُحبتها ومقابلة من هم على شاكلة همام، أحد هؤلاء اصحاب الوجاهة والشقق الواسعة في الأماكن الراقية، أو تقوم بالبحث بنفسها عن من يعوّض مكان آدم ويفوقه وجاهة ومال..
ناهد جميلة متوهجة، تخطف الأنطار فور وصولها اي مكان، لن تعجز عن لفت انتباه أحدهم، فقط عليها المزيد من هدم الحواجز ورفع برقع الحياء، آدم مازال بأعين منتفخة بسبب قلة النوم والآرق وعقل مُغمض لا يريد رؤية حقيقة ناهد ورغباتها وخططها الجديدة..
يقابلها للمرة الأخيرة وكالعادة تتفن في اثارة غيظه وغيرته وتعتصر قلبه بجفاء اللقاء، لا تعطيه الأمل المحمود ولا تفعلها وترحم فؤاده وتقتل بداخله أخر أمل عله يعود ويغير الاتجاه والطريق، تزايد على مشاعره وتتهمه بكل الجرائم وتذكره بصوتها الحاد المنفعل للمرة المليون بخطاؤه وهى صارمة رافضة أن تتحلى بأي لمحة غفران..
تضع أمامه شروطها المُعقدة المستحيلة كما أوصتها منال المأتمنة على مصالحها وحامية قلبها وكابحة مشاعرها، تغادر بعد وصلة عبارات قاسية وهى تتوعد وتُقسم على الإنتقام وتحويل حياته إلى جحيم، ثلاث ليال بلا نوم حتى تمرد عليه عقله ومن شدة إعياءه قرر عقله عقابه وكشف عنه ما كان يُصر بعناد ألا يفهمه ويراه..
يجبر أعينه المرهقة على رؤية شريط الذكريات كله دفعة واحدة، ولكن هذه المرة من الزاوية العكسية، يكتئب ويزداد شعوره بالحزن والضياع، يرتجف قلبه عشرات المرات كأن به صرع أو جِن قرر إراحته والخروج من جسده، يشعر كأنه عصفور بداخل قفص من الحديد الخشن الذي لا يتوقف عن جرح جسده كل ساعة وكل دقيقة..
باب القفص يُفتح، ينظر إليه بتحديق غير مصدق أن باب القفص لم يعد موصود، رغم كل الألم والعذاب، وجد بداخله حنين بالغ في البقاء بداخل القفص، رغم كل شئ يشعر بإنتماء للقفص صانع الجروح والندبات، نسمة هواء باردة تدخل من الباب المفتوح تداعب أنفه..
يستنشق رائحة كان قد نسيها من وقت طويل، يُغمض عيناه ثم يفعلها ويخرج من القفص، سقط في الفراغ ثم فرد جناحيه، الهواء يحمله بكل رضا وسعادة ويهب جناحيه قوة لم يكن يتصور أنه يملكها، ناهد تجلس أمام منال بأعين مصدومة بها لوعة واضحة، كانت تملك عصفور بداخل قفص، والآن فقط.. أصبحت تملك قفص بلا عصفور.
-تمت-