دار في خاطري| مركب في النيل
إنه ذلك اليوم الذي قررت قضائه على شاطئ النيل، والشمس تستعر في كبد السماء، ولكنها لم تعكر صفو ذلك اليوم.
مضت الساعات واحدة تلو الأخرى حتى لم يبقى على غروب الشمس سوى ساعة أو اثنين على الأكثر، فبدأت النسيمات العليلة تهب بين الحين والحين وقد هدأت حرارة الشمس، ولما لا وقد أوشكت باقتراب رحيلها، فكانت في ذلك اليوم أشبه بطاغية ظالم جبار، وعندما علم باقتراب أجله قرر أن يصير عادلا.
قررت أن أقضي ما تبقى من اليوم في مركب في النيل حيث الهدوء وجمال الطبيعة الخلابة، واستشعار الماضي البعيد منذ مئات وآلاف السنين.
كنت أول من جلس بالمركب ومن ثم توالى الركاب، نساء ورجال، شباب وأطفال، أما أنا فرحت أنظر إلى النيل “حعبي” عند أجدادنا القدماء، ومضيت أفكر كيف عاشوا وبنوا حضارتهم الباقية حتى الآن، كيف قدروه وعظموه فكان يسمى “إترو عا” أي النهر العظيم، وكيف نقوا مياهه لتكون صالحة للشرب، وكيف أقاموا على ضفافه حضارتهم الخالدة، وكيف ذلك النيل السخي لم يكن خاصا بزمن بعينه أو حقبة بعينها، بل هو شاهد على جميع العصور والأزمان، شهد الأزمة والرخاء، شهد الحرب والسلام، عاش مع البشر في كل العصور.
تحرك المركب معلنا عن بدء رحلة ممتعة تجمع بين الحاضر الذي تراه عيني، والماضي الذي يستحضره عقلي، ومن ثم أطلقت أذني صرخة استغاثة، فما تسمعه لا يتناغم مع عيني وعقلي، فقد أرسلت إشاراتها إلى مخي بما يصل إليها، فأرسل لها المخ بأن ذلك إزعاجا لا مناص منه، فإن ذلك ما يطلقون عليه “غناء شعبي”.
بما أن عقلي كان في زمن بناة الأهرام، فأول ما خطر ببالي هو الخط الديموطيقي، فهو يعني الخط الشعبي، وهو أحد خطوط اللغة المصرية القديمة، ولقد سمي شعبي لأنه الخط الذي استخدمه الشعب، وتدريجيا راح عقلي يعود إلى الحاضر فتذكر الأكل الشعبي كالفول والفلافل، فهو الطعام الذي يتناوله معظم الشعب، وهكذا تطلق كلمة شعبي على كل ما يخص عموم الشعب، ولا يعني على الإطلاق كل ما هو ردئ أو هابط، أو دون المستوى.
هكذا كان عقلي يفكر وهو يأبى ما يسمعه، فهو يتنافى مع الطبيعة الجميلة، والحضارة العريقة، فراح مخي يرسل إشارات إلى لساني يحثه على الكلام، فأذني لن تصمد كثيرا، وتلبية لنداءات المخ قرر لساني أن يطلب أغاني فيروز أو عبد الحليم، أو أغنيات عفاف راضي الخاصة بالأطفال، خصوصا وأن بالمركب أطفال فسوف تسعدهم كثيرا.
نظرت حولي فإذا بجميع من بالمركب منسجمين مما يسمعون، خاصة الأطفال يغنون ويرقصون، وكأنهم يحفظونها عن ظهر قلب، فتعجبت لما رأيت، ولكن سرعان ما جاءني عقلي بما يقنعني وهو أن تلك التي يسمونها أغاني شعبية تتردد باستمرار في آذانهم، في وسائل المواصلات، في الأعراس، وأعياد الميلاد، وجميع الحفلات والمناسبات، والرحلات، وهواتف آبائهم وأمهاتهم، لذا فهم لا يسمعون سواها، وعدت أفكر في كلمة “شعبي” أهي حقا شعبية بصرف النظر عن كونها أغاني أو غير ذلك من مسميات؟! فقد أصبحت حقا ما يسمعه الشعب بجميع فئاته وطبقاته، أهي حقا تروق لهم؟! أم أنها محض مواكبة للعصر؟! هذا العصر الذي أصبح كل شيء به مزيفا لا طعم له ولا لون.
سرعان ما برقت في ذهني بارقة أمل وهي إذا تذوق هؤلاء الأطفال فنا راقيا لوجدوا اختلافا كبيرا، وربما تكون بداية لإحياء الماضي السحيق بفنونه وحضارته، فقررت أن أتكلم وأطلب الأغاني المفضلة لدي، ولكن كانت الرحلة قد انتهت، فسكن الضجيج، وغادر الركاب كل إلى طريقه، وغادرت أنا أيضا وعقلي يفكر في المستقبل ويتساءل هل بعد ألف عام سيجد الناس على تلك الأرض أثرا طيبا لنا يذكروننا به كما كنا نذكر أجدادنا؟! وبماذا سوف يشهد النيل؟!