على مرأى من مليارات البشر حول العالم، باتت أوروبا التي تعاني اقتصاديا وديموغرافيا وسياسيا تشهد أزمة ثقافية جديدة، فمع احتياج المجتمعات الأوروبية لمن يعيدها إلى الحياة الإنسانية مجددا، لتوازن بين الشهوات البهائمية والحياة البشرية، دون تطرف في حريات أباحت للبعض أن يرتدي زي كلب أو أن يتزاوج البشر من الجنس الواحد من بعضهم البعض، باتت الأزمة عصية على الحل، إلا أن تنتبه القارة العجوز إلى ما يواجهها من تحديات أخلاقية مرة.
لم يكن ما شاهدناه في افتتاح دورة الألعاب الأولمبية في باريس بالأمر الجديد؛ فازدواجية المعايير الغربية جعلت من “حقوق الإنسان” مصطلحا يسوغ لها التدخل العسكري في بلاد الواق واق، ولكن إن تعلق الأمر بمحددات السياسة الغربية فالقتل أو السجن، شأن أعتى الديكتاتوريات في عالمنا المعاصر. ولذلك صارت كل المسلمات الدينية لا قيمة لها أمام الشهوة الغربية التي أباحت واستباحت كل شيء، حتى السيد المسيح نفسه لم يسلم من أفعالهم، فجاءت محاكاة لوحة العشاء الأخير، لتثير الجدل، حيث جسدها مجموعة من الفنانين المتحولين جنسيا، وكذلك المغني فيليبي كاترين الذي ظهر عاريا ويجسد الرب الإغريقي ديونيسيس ضمن نفس المشهد الخاص بـ”العشاء الأخير”.
الأمر ذاته يراه العالم أجمع، حين يكيل الغرب بمكيالين في الصراع العربي الإسرائيلي، ولا يتوقف شلال الدم الذي أودى بحياة عشرات الآلاف من الأبرياء، ولكن الغرب المختطف إعلاميًا وثقافيًا، ينظر بعين عوراء، وكأن كل الهيئات الدولية بمحاكمها وهيئاتها ليست إلا حبرا على أوراق بالية، لا يلتفت إليها ولا يُعتد بها، إلا حينما يتعلق الأمر بإفريقيا أو غيرها من دول العالم الثالث حول العالم.
ولوحة “العشاء الأخير” تعد أحد أبرز إبداعات الفنان الإيطالي ليوناردو دا فينشي، وهي واحدة من أشهر اللوحات في تاريخ الفن. تم رسمها بين عامي 1495 و 1498 في دير سانتا ماريا ديلي غراتسي في ميلانو، إيطاليا، وتعد أكثر لوحة دينية أعيد رسمها في التاريخ، كما خضعت إلى سبع محاولات ترميم، أولها عام 1726 وآخرها في 1999.
وتعتبر اللوحة دراسة عميقة للطبيعة البشرية، حيث تصور اللحظة الدرامية بعد أن أعلن السيد المسيح لأتباعه الاثني عشر أنه سيتم خيانته من قبل أحدهم، و الشخصيات الرئيسية في اللوحة هم:
1. السيد المسيح: في المركز، يجلس بمفرده بهدوء ومظهره هادئ ومستسلم لمصيره.
2. التلاميذ الاثني عشر: مقسمون إلى مجموعات من ثلاثة على كلا الجانبين، وهم:
– من اليسار إلى اليمين: بارثولوميو، جيمس الأصغر، أندرو، يهوذا الإسخريوطي، بطرس، يوحنا.
– من اليمين إلى اليسار: توما، يعقوب الأكبر، فيليب، متى، تاديوس، سمعان القانوي.
والمتأمل يجد أن لوحة “العشاء الأخير” ترمز إلى اللحظة الحاسمة في قصة الخيانة التي تسبق صلب المسيح. كل تلميذ يظهر رد فعل مختلف على إعلان يسوع: يهوذا الإسخريوطي، الشخص الذي سيخون يسوع، يظهر مظللاً ويمسك بكيس من الفضة، رمز للخيانة، بطرس، يحمل سكينًا خلف ظهره، مما يشير إلى إنكاره ليسوع لاحقًا، يوحنا، يميل نحو يسوع، مما يعكس علاقته المقربة به.
البعض يشير إلى أن المخرج استلهم العمل الفني من لوحة “وليمة الآلهة”، للفنان چان بيلجرت، والتي رسمها عام 1635، ولكن الاعتذار الفرنسي لم يشر إلى ذلك، ولو صح لكان التبرير الأفضل لحفظ ماء الوجه.
الأزهر الشريف والكنيسة المصرية دانا ما حدث في افتتاح دورة الألعاب الأولمبية، معتبرين إياه عدم احترام للأديان، في تلك المحاكاة، ظهر بدلا من المسيح وتلاميذه امرأة ملتحية ورجال يرتدون زي النساء. بجانب استياء عالمي، دفع فرنسا إلى تقديم اعتذار؛ حيث قالت آن ديكامبس، مديرة الاتصالات باللجنة المنظمة للألعاب الأولمبية، إن اللجنة تعتذر عن المحاكاة الساخرة “للعشاء الأخير” في حفل الافتتاح التي أثارت ردود فعل قوية وانتقادات واسعة. وقالت إن اللجنة المنظمة لم تكن تريد الإساءة إلى أي شخص كان أو إهانة مشاعر أي أحد. وشددت على أن المخرج توماس جولي لم يرغب في الإساءة لأي شخص بهذه المشاهد ضمن حفل افتتاح الألعاب.
واستنكرت الأسقفية الفرنسية مشاهد “الاستهزاء والسخرية تجاه المسيحيين”. وقالت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية إن المخرجين أظهروا ازدراء للحضارة الأوروبية والمسيحية، ووصف رجل الأعمال إيلون ماسك حفل افتتاح الألعاب بأنه “عدم احترام صارخ للمسيحيين”. ونتيجة لضغط شعبي، تم حذف الفيديو الذي يعرض اللحظات الرئيسية لحفل الافتتاح من موقع اللجنة الأولمبية الدولية وقناة المنظمة على اليوتيوب.
لم يكن الحدث إلا نقطة في بحر من التيه الثقافي والأخلاقي والحضاري الغربي، ولا أرى الريح تحمل في طياتها غير بذور الضياع أكثر وأكثر، فما أسوأ أن تصل بها التكنولوجيا إلى السماء وباطن الأرض وجوف البحر، وترانا كلما فُتح لنا طريق مخالفة الفطرة السليمة، فلا يستقيم لنا دين ولا دنيا. فالحذر الحذر مما يجرف الأجيال الناشئة في مستنقع انحلال وتحلل من كل شيء، وإن لم ننتبه لذلك فلن ينفع الندم.