إبداعات كلمتنا| “سيرك حلاوة”
سرادقها أحمر كبير مزركش، وله لافتة تقبع فوق كرسي على حافة المدخل: … الفقيدة أحلام الشحات حلاوة …
لقد ماتت، النقاط الحصينة بدأت في الانهيار تباعا، وجودها المزدحم بأطماعها وصراعاتها يختفي، لن تنام في سريرها أو أي سرير آخر، لا مزيد منها .. لا مزيد من التذمر ولا مزيد من السباب، كما أنها لن تصدر فواتير جديدة تستحق الدفع .. حتى اسمها الذي كان “أحلام حلاوة” سقط على اللافتة الأخيرة، و”الشحات” ظهر مُشْهرَا داخل الصورة لأول مرة.
ياسلام .. أحلام الشحات .. مضاف ومضاف إليه .. واحدة من أشهر مركبات العربية .. كلمتان بينهما علاقة شاذة .. الغريب أنها معلنة .. هكذا (عيني عينك) مضاف و(..)، الأغرب أن العجز سمة سائدة في كل التكوين .. نكرة ومعها كلمة طفيلية.. يجمعهما بناء مجهول النسب…ومع ذلك فإن هذا التكوين بكل عموميته وتجريده يستطيع أن يدون المعاني والإيحاءات ويدغدغ بها قلوبا وعقولا.
.. ماتت أحلام الشحات حلاوة ..
آه يا أحلام .. أنا لا أملك الجنة لكن الدعوات لا تكلف شيئا !! إليك دعوة بجنة الخلد .. بل أحلى مكان في جنة الخلد، مكان متميز يرضي غرورك ويطفئ الحريق المسعور في داخلك !
اجعلها يارب تباغت المؤمنين الذين تحفظوا وتعففوا فلم ينالوا مثل ما حصلت عليه.. ميزها يا رب في دار الخلد بعد أن تجاوزت الإقفال النهائي لدار الاختبار التي استحوذت فيها على أحلى مما كان يحلم به المؤمنون. ولو كانت النار ترضيك فإليك دعواتي الحارة بالجحيم !!
الرعاة الرسميون للعزاء يتحالفون بعزيمة وتصميم على طرف سجادة مؤجرة .. يقفون عليه صفا واحدا، عائلة واحدة .. رجل أبيض جدا يقف إلى جواره رجل مسن وآخر عاجز ورجل كفيف وآخر أخرس، يتلقى الرجل الأبيض أكف رجال آخرين قادمين للعزاء ..يتوارى خلف صمت وشكر وإجابة تقول فيما يشبه الخفوت: سعيكم مشكور، ويتوارى الآخرون خلفه.
في الداخل.. رجال يجلسون على مضض، يتبادلون ملامح مؤقتة وإيماءات محدودة نحتوها في عجالة على وجوه خشبية، لم أتعرف على أي منهم رغم أن أشياء فيهم تبدو مألوفةً، ربما رأيت “أحلام” في صحبة أحدهم يوما، أو رأيت من يشبههم فأصدقاؤها من الذكور كثيرون.
كانت شغوفة بهم “رحمها الله” تدعوهم “الصبيان”، تخطفهم، تروضهم ثم تتفنن في استخدامهم، تصنع منهم حكاياتها ويدفعون فواتيرها، ثم تحولهم إلى تاريخ يكونها، تجعل منهم أوطانا وأعداء، صغارا وكبارا، صعاليكاً وملوكاً، أحيانا أتذكر معامل الطرشي البلدي عندما تعن سيرة أحلام، الألوان والملح والتعفن أشياء كثيرة مشتركة بينهم.
استخدمها الصبيان كثيرا استخدامات عديدة، دللوها حتى جعلوها ثقبا أسود يفضي إلى عدم، بلا ولاء ولا وطن. عندما تطمئن وتسكن .. تضج فتزهد .. وتخون وترحل .. وكأنها تستعذب التشرد والفزع .. حولت كل ذكورها إلى أشباح وحكايات ليلية تحرق الصور والأوراق وتتركهم يكتبون على الرماد أسئلة وهذيانات..
أين ذهبت أحلام؟ لماذا رحلت؟ هل تحب من جديد ؟ ألا تحزن ؟ ألا يؤلمها الفراق ؟ من أين لها بكل هذه القسوة ؟ قاتلة هي أم وليدة من حرام؟
سحقت عقل الدكتور عبد العاطي وكرامة سيد النجار وقلب الرجل الكبير .. حتى الشيخ الحلالي استباحت لنفسها بيته ونسله. الزهد لعبة تجيدها أحلام كما تجيد الكراهية… والزهد مناورة شهيرة تتعامل مع التوازنات لتعظيم المكاسب وأرباحها .. لقد تنبأ لها سيد النجار “ربما من باب الغل” أن أحدهم سيحش رقبتها عما قريب.
تتأرجح رأس القارئ يمينا ويسارا .. كلما توقف جسده عن التأرجح، يسكب القرآن في فوهة الميكروفون بطنين آلي، له مذاق من خليج العرب المتنازع عليه ويغوص في ما يشبه الرمال المتحركة .. كان يجلس على كرسي في حجم كنبة وارتفاع مائدة مسانده قصيرة، خشبه المرمم غارق في طلاء ذهبي توالى وتراكم في بذخٍ سفيه، أعداء متحدون… شيء يشبه هيئة الأمم المتحدة.
في شتاء عام من الأعوام التحقت أحلام بشيخ لكي تتعلم القرآن وعلومه، اشترت حجابا ومصحفاً وكراريس خضراء وأقلاماً ومسوحاً وبخوراً ومسابح كثيرة.. كانت تحلم من أجل العمرة في الشتاء التالي.
في الشتاء التالي كانت داخل بنطلون ضيق وبطن عارية وسهرة ليلية مديدة تحتسي خمرا مع أحد صبيانها…أصبحت تقر بالكاد أن الله موجود…. فتعلمت منها أن الدين يمكنه أن يكون نزوة مثل كل الذنوب.
يصل القارئ إلى آخر الربع ويختمه بدعاء مهيب ثم يتجمد.. أمّن الجميع ثم أفاقوا من السبات وتبادلوا التحركات، في بعض من المنتصف فتيان يملأون المكان بتمرد خجول واستهتار بريء.. محاولات لإضفاء فكاهة على شفاه وعيون لا يعنيها الأمر..
تذكرت المضاف والمضاف إليه، تسرب إلى إحساس بغيض غامض، وأحسست بحلول أحلام. تذكرتها عندما كانت تصرخ مبهورة بحكايات غبية محايدة كنت ألقيها بترفع وتفكه، كان انبهارها يملأ فراغاتي وتشققات نفسي، يرضي غروري ويملؤني بالنشوة. كنت أظن كلماتي مأثورات لديها وأنني النبي في حواريه المخلصين.
الآن لا أعرف إن كان من الممكن فعلا أن تتواجد الفكاهة في مواطن الحزن أم أن الأمر برمته مجرد صنعة محبوكة باقتدار بليغ، “فبركة في فبركة”، فلا هؤلاء حزانى ولا أولئك يضحكون ولا أحلام كانت مأخوذة بما أقول !
مجهدون شاردون يجلسون ما بعد المنتصف، بعضهم يغط فيما يشبه الحزن، وكثير منهم يختبرون الوجوه الأخرى .. رأس مالت إلى أذن تسأل في همس:
– هواللي احنا عزيناه ده يبقى جوزها؟
– أيوه
– أول مرة أشوفه
– ما تشوفش وحش
– تفتكر أحلام حتدخل الجنة وللا النار؟
– تروح مطرح ما تروح اللي حيسري على الناس حيسري عليها.
– حرام عليك الكلام بالشكل ده…اذكروا محاسن موتاكم.
– محاسن المرحومة؟.. حاضر .. بس بعد القرآن.
تبادلا نظرة ثم حفرا ضحكتين عميقتين محفوفتين بالصمت وأنفاس متلاحقة.
ترى أين أنت الآن يا أحلام في الجنة أم في النار، هل يمكن أن يكون مثواك الجنة ؟ ولم لا ؟
أحلام الشحات امرأة من البشر في لوحاتها مساحات خضراء بجوار خرائبها وحرائقها لقد اجتاحتني في أحد مواسمها بنزعة متصوفة حارقة، ترصد وتبكي وتكتب وتتحدث عن الغفران والوجد.. تباغت الحيارى بالفضل وتعيرني بدناءتي الحيوانية من حين إلى حين، لقد أدهشتني حتى تصورت أنها تتحول شيئا فشيئا إلى كائن شفاف بديع الطباع، أو أنها ستصبح امرأة مثل رابعة العدوية .. لا أذكر على وجه التحديد متى حدث هذا. ربما في عهد حكم الشيخ الحلالي عليها.. ربما.. لم أعد أذكر التواريخ؛ فالأيام شديدة التشابه والاقتراب، والتصوف يمكن أن يكون نزوة هو الآخر ..
ثم إن موتها سيصنع فراغا دنيويا له أثر .. أحياء عديدة في الحياة الدنيا لن تكون كما اعتادت أن تكون، ستتغير أشياء وتضيع أخرى للأبد. سيتقيأ الجميع من أجلها كل طقوس الموت الموروثة على أكمل وجه، وسيعيدون صياغة المشاعر والأفعال بما يكرس فكرة الضياع وانقطاعها الأبدي.. كثير من التصريحات سيتغير سياقها وبناؤها… على رأسها جملة يقول مطلعها: قالت لي أحلام.
في شريان السرادق بين صفوف الكراسي رجل يمشي بسرعة، يناور الأرجل ببراعة متجها إلى القاع، يحمل صينية لها بريق مستهلَك وعليها فنجان وكوب ماء.
في القاع.. صف طويل من الكراسي المعدنية يحتل الفراغ من القماش إلى القماش ويحمل رجلا حزينا .. يتناول الرجل الفنجان بيد مرتعشة، يرتشفه في ألم ثم يسقطه على ملابسه .. يتلقف الجرسون الفنجان الهابط من الهواء، ينحني إلى الرجل ينظف بمنشفة قذرة بقعة القهوة من قميصه
ثم يقول:
– حصل خير يا أستاذ .. الحمد لله إنها جت على قد كده ..
يتمتم الرجل في وهن:
– الحمد لله .. الحمد لله ..
فيرد الجرسون في إشفاق:
– دلق القهوة خير … والله خير.. ربنا يصبرك.
يبدأ الرجل الذاهل في البكاء، ويعود الجرسون إلى عمله …يعبث الهواء بأقمشة السرادق الأحمر وبحالة الكآبة التي يكد الجميع بإخلاص لإغراق المكان فيها. أحسست بغربة وتمنيت الخروج، لا أحد يشبهني ولست على علاقة بأحد، أكاد أختنق.
الرجل الباكي سرقني إليه مرة أخرى.. يا لألمك أيها الرجل …من تكون؟ ولماذا أنا وأنت هنا؟ لماذا لا يبكي أحد آخر معك؟ لماذا لا يحزن أحد؟
لقد ماتت أحلام يا صبيان..لن يكون هناك أحلام بعد ذلك .. هل من الممكن أن تكون أنت ابن أحلام ؟ أم أنك أحد ذكور السيرك الموتورين؟!!
غريب أمرك يا بنت حلاوة… سرادقك يشبهك كثيرا… نفس المرار والفراغ والخداع، كأنك صنعتيه بنفسك .. كأنك أرسلت الدعوات ورسمت الأدوار !
سأخرج ..سأغير على زوجك وهو يتلقى العزاء، سأسلم عليه بحرارة، سأحييه على خدماته لك بإخلاص لعله يدرك أنه لا يعرفني، وربما أسلم على كل ذكور العائلة سأعبر المدخل بطريقة لا تجعله مدخلا ..سأخرج..
ظلام الليل الطبيعي أكثر وضوحا ورحابة، سأمشي على الرصيف وأراقب الناس والكلاب الضالة، ربما أبزغ على الدنيا من عيون القطط، سأمارس أشياء سهلة، سأبدد الساعات كما لم أفعل من قبل.
في هدوء، توجهت نحو الرجل الباكي !نظرت بين عينيه.. وألقيت عليه العزاء .. قلت له إن الموت هو مصير الجميع والفقد قدر محتوم …الألم شيء بشع، أنت تموت موتا بطيئا بالغ الألم بلا شفاء لك أو تعويض، لا أمان في الدنيا وربما لا جنة في الآخرة وبكل تأكيد لا أحلام… أقدم لك بكل تقدير التعازي الحارة المجانية … البقاء والدوام لله.. واخبط راسك في الحيط !!
عندما انتهيت كان قد بدأ يرفع نظره إلي وعندما مضيت كان نحيبه قد ملأ كل فراغات السرادق .. إنه الآن ينفد.. يتناغم مع الموت .. شيء بديع، لأن الموت هو الأصل والفصل. نحن علامة استفهام ما بين الماضي والموت..
في نزوة ليلية للهواء أخذ يهاجم المصابيح المعلقة وعوارض السقف، يدور حول نفسه وتدور الأصوات التي يبعثرها حوله، ظل يتهكم ويسخر حتى بدد كل رصيدي من الدفء.
تتأرجح الأضواء وتلامس البرودة ظهري.. يتملكني رعب وألم مسموم كذلك المربوط بذكراها منذ سنوات عديدة … هل من الممكن أن تكون أحلام قد ماتت فعلا أم أنها كذبة أخرى وخداع بصر؟!
من داخل ظلام الطريق ألقيت نظرة أخيرة على السرادق، أحسست أنني حزين ويتيم، أدركت رغبة في البكاء، مصيبة أن تكون أحلام قد ماتت، أو أن أكون أنا إنسان حي بين الناس.