كاتب ومقال

بين السطور16| بين التسليع “والبكالوريا”.. ماذا يريد القائمون على ملف التعليم في مصر؟

رضا الشويخي يكتب:

نبدأ الحكاية بخبر ربما يفيدك وهو “اندماج شركتي Getty images عملاق الصور وShutter Stock المورد الأبرز للمصممين، والذي يعرفه حتى الهواة في مجال الإعلام، في صفقة تجاوزت 2 مليار دولار، ولك أن تتخيل الرقم بغيره من العملات. وإذا تحدثنا عن التعليم فعلينا أن نتحدث بكل شفافية ونسأل السؤال الملح: ماذا تريد مصر -صاحبة 7 الآلاف سنة حضارة- من التعليم؟ .. هل لدينا رؤية واضحة وخططًا نسعى لتحقيقها، أم أن الجلوس على كرسي هذه الوزارة يمنحك صكًا أن تفعل ما يحلو لك؟

لا أقصد انتقادًا لشخص بعينه ولا فريقًا بذاته، ولكن لنجعلها -عزيزي القاريء- مناقشة ولنسأل سؤالاً آخر: كم مرة تولى مقاليد هذا الملف متخصص في التعليم وتطوير المناهج، رغم أن لدينا العشرات، بل ربما المئات منهم في مختلف كليات التربية والآداب وغيرها؟

ودعنا نسأل سؤالاً ثالثًا، هل يليق بمصر التي علمت العالم شتى فنون الحضارة من طب وفلك وكيمياء ورياضيات وهندسة وغيرها أن تناقش حذف مواد البرمجة والذكاء الاصطناعي في الوقت الذي بات العالم يتنافس على الفضاء؟.. هل صار لائقًا بنا ما قاله نِزار قباني، وإن اختلفت المقاصد: “لقد لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية!”

إن الحقيقة المرة التي لا يمكن بحال أن نغض الطرف عنها أن تسليع التعليم سندفع ثمنه فادحًا، ربما من حياتنا حين تطالنا يد طبيب لم يحسن إتقان مهارات الطب، ولكن نال شهادته بفلوسه، أو مهندس لم يحترف قواعد الهندسة كما يجب، ولكنه صار مهندساً رغم أنوفنا أيضًا بفلوسه!، والقائمة تطول، وقد لا يتسع المقال حديثًا عن ذلك.

ليست المشكلة أن يكون اسمها “الثانوية العامة” أو شهادة البكالوريا ( baccalauréat)، -وهي بالمناسبة كلمة فرنسية، ذاعت في المغرب العربي أثناء الاحتلال الفرنسي، واستمر الاحتلال لمدة 44 عامًا، بين 1912 وعام 1956- وهي بشكل عام شهادة علمية د، تختلف حسب البلدان؛ ففي فرنسا هي الامتحان الذي ينهي الدراسة الثانوية أو “البكالوريا العامة والتقنية والمهنية” وتطلق على شهادة ختم التعليم الثانوي في بلدان شمال أفريقيا، وفي كندا هي الشهادة الجامعية. ويا للمفارقة أن تستدعي مفردة من لغة تجعلها غير مضافة للمجموع أصلًا!

وسرعان ما انتقلت الكلمة إلى مصر مع الاستعمار الفرنسي، وتعني شهادة ختام التعليم الثانوي، ولا تزال مستخدمة حتى الآن في عدد من البلاد العربية، منها الجزائر، تونس، المغرب، موريتانيا، سوريا، لبنان والعراق. وكانت امتحانات شهادة الباكالوريا تتم على مدار سنتين، إلا أن الوضع تغير بعد استقلال المغرب، وأصبحت تتم فيها على مدار عام واحد فقط، ومن ينجح يُجرى له امتحان شفهي، ومن يتجاوز ينتقل إلى مرحلة التعليم العالي.

إننا لم نتطرق بعد إلى شكل التصور المقترح لهذه البكالوريا، ولكن حاولنا أن نفهم من أين تنبع المفردات اللغوية في بلد ضارب في جذور التاريخ، ويا للأسف أن نستقدم مفردة من لغة لا يمكن بأي حال مقارنتها باللغة العربية، ويكفينا في هذا المقام ما أورده المحقق الكبير الدكتور محمد حميد الله الحيدرابادي، عن “دور اللغة العربية في نشأة اللغة الفرنسية” مثلًا، أو كتاب “اللغة العربية أصل اللغات” والذي أبدعته د. تحية عبد العزيز إسماعيل أستاذة متخصصة في علم اللغويات.

المفارقة الثانية، والتي تطرح سؤالًا رابعًا، وأرجو أن تسامحوني وترافقوا الصبر قليلًا، عسانا نفهم؛ فهل واضعو تصور هذه “البكالوريا” قرأوا عن ما تحققه شركات التكنولوجيا من استثمارات مليارية حول العالم؟ هل عرفوا أن المتربعين على عرش الصناعات يعادونك ليل نهار، وتمنحهم بإذنك صكًا مجانيًا لمراقبة هاتفك وتسجيل ما يدور حوله، بل والأنكى من ذلك والأغرب أن هذه البيانات رغم انتهاكها الواضح لخصوصيتك إلا أنها أصبحت وسيلة لاستهدافك تسويقيًا بشتى صنوف المنتجات، فصار الربح منك مرتين وثلاث وأربع، إلى ما لانهاية!

إنني أهمس في أذن من يمتلك قرار “البكالوريا” أو غيرها أننا لن نستطيع العودة إلى حلبة المنافسة إلا بتعليم قوي، يراعي متغيرات العصر، تعليم يقوم على الفهم والوعي لا التلقين والحفظ، تعليم يخرج جيًلا يحسن الصناعة والزراعة والتسويق والاستثمار والاقتصاد، تعليم يخرج لنا جيلًا يتحدث لغة هذا العصر مرتديًا هويته المصرية التي علمت العالم، حين كان مغرقًا في ظلام دامس، إلا قليلًا.

نريد أن نرى في مناهجنا تعلمًا لعلوم البرمجة والذكاء الاصطناعي، وعلوم التشريح ومدارسه، والأدب المقارن والعالمي، نريد يا مصر ألف شاعر مثل شوقي وحافظ والبارودي والأبنودي، نريد جيلًا غير من نراهم في الشوراع، نريد تعليمًا لا تسليعًا، فهذه الجنيهات الخمسمئة لن تنقذ شعبًا جاهلاً ولن تبني بلدًا ضائعًا؛ إنما يبنيها مناهج قوية، وأن يوسد الأمر إلى أهله، فيتولى ملف التعليم خبير في طرقه ومناهجه، ويتولى ملف البحث العلمي عالم بضروبه ودروبه، وأن يسند ملف الصناعة إلى رجل يؤمن بالصناعة الوطنية لا الخصخصة والتصفية، وأن يؤول الأمر إلى من يفهم في كل ملف ومجال.

إننا نعلم جميعًا أننا أمام تحديات جسيمة وفي مرحلة تاريخية صعبة، فلا أقل من أن نؤدي المَهمة بما يضمن لنا ألا يلومنا التاريخ أو يتحدث عن بسوء أبناؤنا وأحفادنا، وسيف التاريخ مصلت لا يرحم متكاسلًا أو متخاذلا، ولو بكلمة؛ فما علمت النار إلا في كلمة والجنة في كلمة والعهد كلمة والأمن كلمة، ولكن في طيات هذه الكلمات ما لا يمكن حصره ولا تقصيه.

إننا نأمل أن يكون هناك من يقرع ناقوس الخطر، ونن يمتلك رؤية لبلد عمره زهاء 7 آلاف عام من الحضارة وأقول إن لنا في التاريخ جذورًا ضاربة فوق هذه السبعة آلاف! وختامًا: التعليم.. أولا وثانيًا وعاشرًا، وإلا فقل علينا السلام!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى