كاتب ومقال

ولا في الخيال| للعقل عيون بعضهم يستطيع أن يرى بها.. طه حسين

في قريةٍ صغيرة بِمُحافظة المِنيا، حيث ينساب النيل كشريطٍ مِن الفضة تحت شمسٍ حارقة، وُلد طه حسين طِفلاً يُبصر، لكنّ الظلام كان ينتظره. في الثالثة من عمره، اختطف المرضُ عينَيه إلى الأبد. صار العالمُ بالنسبة له سديمًا من الأصوات، لكنّ الظلام لم يسرق فضوله. كان يلمس وجوه أهله كأنه يقرأها، ويجلس تحت شجرة التوت يستمع إلى أخيه الأكبر يقرأ القرآن بصوتٍ مُرتِّل، فتحفظ الآيات قبل أن يفهم معناها.

ذات يوم، سمع والده يهمس لأمه: “ماذا سيفعل هذا الأعمى في حياتِه؟”. الكلمةُ اخترقته كسكين، لكنها زرعت فيه إصرارًا غريبًا. قرر أن يثبت أن العينَين ليستا الطريق الوحيد لرؤية العالم.

في الأزهر، حيث كانت الظلالُ الطويلة للمَشايخ تسيطر على حُجرات الدرس، كان طه يجلس في الصفوف الخلفية، يلتقط الكلمات كَنَدى بأصابعه على صفحات الكتب البارزة (البرايل). كان يَسأل أسئلةً تُغضب الشيوخ: “لماذا نتبع ما قيل دون أن نفهم؟”. اتهموه بالكفر، لكنه لم يتوقف. كان يعرف أن الظلام الخارجي لا يُقاس بظلام العقل.

ثم جاءت فرنسا، حيث الرياح الباردة تُحاكي غُربته. هناك، بين أروقة السوربون، استمع إلى فلسفة أرسطو وشعر فيرجيل بصوت زوجته الفرنسية “سوزان”، التي صارت عينَيه ورفيقةَ دربه. كتب رسالته عن ابن خلدون، مُثبتًا أن عقلًا عربيًّا يستطيع أن يَحفر في أعماق التاريخ دون أن يَراه.

عندما عاد إلى مصر، حمل مِشعلًا غريبًا: دعوةً إلى أن يُفكِّر الناسُ بعقولهم، لا بعيونهم. كتب “الأيام” ليسرد سيرته، فتحولت مأساةُ العمى إلى ملحمةٍ عن إرادة الإنسان. أسس جامعة الإسكندرية، وكأنه يبني بيتًا للضوء وسط ظلام الأمية.

في إحدى ليالي القاهرة، سأله تلميذٌ: “كيف استطعتَ أن ترى ما لا نراه نحن المبصرين؟”. ابتسم طه وقال: “العمى يلهمني أن الحقيقةَ ليست صورةً تُرى، بل فكرةٌ تُلمَس بالعقل. عندما أغمضتم عيونكم خوفًا من السؤال، فتحتُ أنا عينَيَّ الداخليتين”.

هكذا صار طه حسين: رجلاً حوَّل عتمةَ عينَيه إلى منارةٍ تُنير دروبَ ملايين العقول. لم يكن أعمى، بل كان يرى بعينٍ سادسةٍ اخترقت ظلام الجهل، وكتبت بِالنورِ تاريخًا جديدًا.

بقلم:
د. زين عبد الهادي
الكاتب والأكاديمي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى