خروجتنا

رحلة العائلة المقدسة.. رسالة الأمن من مصر إلى العالم

تتسارع الأحداث منذ فجر التاريخ، ولا يمكن لعالم أن يحيط بدقائقها، فما تعرفه انت يجهله غيرك، وما أوتي لغيرك من علم ومعرفة يغيب عنك بعض، اختلافات كثيرة وحجارة أكثر ألقيت في مياه راكدة، وأنهار جرت في مسارات طبيعية أو صنعها البشر، كل هذه التغيرات جعلت من الحالة المصرية نموذجًا فريدًا؛ فمهما جرى في أوديتها ستبقى علامة فريدة في صفحات التاريخ قديمًا وحديثًا، ومهما مرّ عليها من أحداث ونكبات تمضي لا تلتفت خلفها، واثقة أن خطوات اليوم هي تاريخ الغد ومستقبل الأجيال التي شرفت بالانتساب إليها. وفي عتمة ليل فلسطين، انتبهت السيدة مريم بخوف، خوفًا على رضيعها من أيدي الطغاة الظالمين، ولكنها وجدت عونًا في القديس يوسف النجار، الذي أرشدها وأعد الطريق لهروبهم إلى مصر، حيث ينعمون بأمان الأرض وحريتها.

في الأول من يونيو، أعلنت الأم قرار الفرار من حكم هيرودس، الذي كان يهدد حياة السيد المسيح ومن معه بالتعذيب والقتل. استعدّ يوسف وجلب الحمار وجهزوا للرحيل، حاملين أمتعتهم وأمانيهم على درب مصر، حيث تجلى الرحمن ليوفّق خطى تلك العائلة المقدسة نحو الأمان والسلام. مصر، الأرض التي عُرفت بحضانتها للحضارات والأديان، شكّلت وجهة آمنة للعائلة المقدسة، وأضافت رحلتهم إلى تاريخها العريق نقطة ساطعة في سجلها، فترحّب الأرض المصرية بالضيوف بكل حنان ووداعة.

وحينما نتأمل تلك الرحلة الخالدة للعائلة المقدسة إلى مصر ندرك خصوصة الشخصية المصرية التي أبدع في وصفها العالم العبقري جمال حمدان، وتفننت قرائح الأدباء والشعراء في وصفها، فهي مجمع البحرين وملتقى الحضارات وواسطة العقد للعالم أجمع، لهذا حباها الله بمسار لا تجد مثله على ظهر البسيطة، إذ احتضنت وآوت من لجأ إليها من العائلة المقدسة، هربًا من البطش والظلم، ليصبح مسار العائلة المقدسة، نموذجًا لتفرد الحالة المصرية.

ذلك المسار الذي انتبهت إليه الأعين بعد عشرات السنين، لتضعه منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونسكو»؛ فوضعت مسار العائلة المقدسة على قائمة التراث غير المادي.. بجهود خبراء قدموا رؤيتهم في ذلك أمام اللجان المختصة، وما تزال هذه الكنوز بعدية عن الاستغلال الحقيقي والترويج العالمي لتجذب الزائرين إليها.. وهو الملف الذي أولته الدولة المصرية عناية خاصة، بعد غياب لعقود عن الاهتمام الرسمي.

بدأت رحلة العائلة المقدسة من بيت لحم إلى غزة حتى محمية الزرانيق (الفلوسيات) ودخلت العائلة المقدسة مدينة تل بسطا ثم اتجهت نحو مسطرد ثم بلبيس ومنها إلى بلدة منية سمنود، رحلة وسط الصحاري والجبال والوديان والقفار، ترافقهم فيها وحوش البرية، التي كانت بلا شك أكثر رحمة بالعائلة المقدسة من وحوش البشر المضطهدين لهم. هربوا بحثًا عن النجاة في ربوع مصر العامرة.

عبرت العائلة المقدسة نهر النيل إلى مدينة سمنود ثم إلى مدينة سخا، ومرت على الكثير من البلاد التابعة لمحافظة الشرقية وكفر الشيخ وعبرت نهر النيل حتي وصلت إلى وادى النطرون ثم عبرت نهر النيل إلى الناحية الشرقية متجهه ناحية المطرية وعين شمس ومنها إلى الزيتون ثم إلى مصر القديمة ثم اتجهت نحو المعادي ثم اتجهت إلى الصعيد، في رحلة تقطع الأنفس وتنهك الأجساد، لتبدأ بشارة السيد المسيح بذلك الدين الذي يحمل رسائله السماوية إلى عالم ضج بالظلم والاضطهاد.

مر الرِكاب المبارك على الكثير من المناطق حتى رحلت العائلة من بلدة البهنسا، التي تتعانق فيها الآن قبور أكثر من 5 آلاف صحابي وأجراس الكنائس القديمة، حتى بلدة سمالوط ومنها عبرت النيل حتى منطقة جبل الطير ثم اتجهت نحو الأشمونيين ثم هربت العائلة المقدسة إلى جبل قسقام.. في رسالة تجلو هذه الحقيقة التاريخية أنه لولا مصر ما كان للأديان السماوية أن تزدهر في العالم كله، فأي بلد في التاريخ يصون مقدسات اليهود والمسيحيين والمسلمين دون تفرقة، وأي مكان على ظهر البسيطة يتسامح أبناؤه في العبادات والمعاملات كما ترى معدن المصريين الآن.

لم تتوقف الرحلة المباركة؛ ففي طريق العودة سلكوا طريقا آخر انحرف بهم إلى الجنوب قليلا حتى جبل أسيوط ثم وصلوا إلى مصر القديمة ثم المطرية ثم المحمة ومنها إلى سيناء ثم فلسطين حيث سكن القديس يوسف والعائلة المقدسة في قرية الناصرة بالجليل، في رسالة تاريخية أن مصر بوابة الأديان، وأن هناك الشمال الشرقي تقبع قواسم تاريخية لا يمكنها إنكارها أو القفز فوقها، بأي صورة من الصورة. هكذا انتهت رحلة المعاناة التي استمرت أكثر من 3 سنوات ذهابًا وإيابًا قطعوا فيها مسافة أكثر من 2000 كيلو متر، ولكن لم تنته الحكاية المصرية ولم نجد بعد إجابة للسؤال الذي لا يفارق رؤوسنا: نعم بدأنا مشوار الألف ميل، ولكن متى يرى مسار العائلة المقدسة النور، ليجذب السائحين من حول العالم؟

لم تكن رحلة العائلة المقدسة إلى مصر مجرد تنقلات جغرافية، بل كانت رحلة زرع بذور الإيمان والمحبة. ساروا في الصحراء، وعبروا النيل، يبثون السلام والمحبة في كل مكان وزمان. وبينما واجهوا تحديات الطغاة والمعابد، استمرت رحلتهم بثبات، وتركوا وراءهم آثاراً تشهد على عبورهم ورسالتهم، تمحورت حياة المسيح وعائلته في مصر، خلال الفترة التي تلت ميلاده، حول سلسلة من المحطات الدينية والروحية والثقافية. ابتدأت رحلتهم على ضفاف النيل، وهم يعبرون البلاد، يبحثون عن مأوى وحماية من هجوم السلطات الرومانية واليهودية.

ولم تكن هذه الرحلة المباركة مجرد هروب، بل كانت دعوة للتأمل والتجديد، حيث تركوا وراءهم بصمات روحية تمتد لقرون وتلهم الآمنين والباحثين عن السلام الداخلي والروحاني؛ فمسار العائلة المقدسة في مصر يمثل اليوم مقصدًا دينيًا وتاريخيًا مهمًا، حيث تعزز هذه الزيارة القيم السياحية والدينية للبلاد، وتجذب المواقع التي مرت بها العائلة المقدسة، مثل فنادق العائلة المقدسة، السياح بأعداد كبيرة، وتتحول المسارات التاريخية إلى مزارات سياحية تاريخية، كما توفر المشاريع السياحية التي أُقيمت حول مسار العائلة المقدسة في مصر بيئة استثنائية للزوار، مع توفير وسائل الراحة والإرشاد للسياح، وتشجيع الاستكشاف للمواقع التاريخية العريقة في المنطقة. تجسد هذه المبادرات الجهود المبذولة لتعزيز السياحة الدينية والثقافية في مصر، وتسهم في جعلها وجهة محبوبة للسياح من جميع أنحاء العالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى