فاروق الباز.. “شرقاوي في ناسا”
على مدار سنوات طويلة اشتهرت مصر بعلمائها الذين غيروا مجرى التاريخ، منهم من خلدت ألقابهم في ذاكرتنا منذ مئات القرون، وآخرين ما زالت إنجازاتهم صداها يتردد حتى هذه اللحظة، ويرفع اسم مصر عاليًا وسط بلاد العالم، ولا يمكننا ذكر العلماء المصريين، دون أن نتحدث عن العالم المصري العظيم “فاروق الباز“، حيث عمل مع وكالة الفضاء ناسا في ما يخص استكشاف القمر، كما له أثرًا عظيمًا في فهم طبيعة الصحراء نظرًا لأبحاثه العلمية عن صحاري أفريقيا والشرق الأوسط.
لكن إذا عدنا للوراء قليلًا هل من الممكن أن تكون نشأة فاروق الباز هي التي أثرت على حياته وأصبحت السر وراء شهرته العالمية واعتبره العالم واحدًا من أعظم العلماء على مر السنوات؟
اقرأ أيضًا: “أحمد فريد”.. أول رائد فضاء مصري بوكالة الفضاء الألمانية
هل نشأة الإنسان المنفتحة تصنع منه عالمًا؟
في إحدى شوارع بلدة دلتا النيل في مدينة الزقازيق يناير 1938، نشأ العالم فاروق الباز بين قرية كانت الزراعة تشكل أولويتها الأولى والأخيرة، فكبر على حب الأرض وقدسيتها، وأخذت المناطق الخضراء تتربع على عرش قلبه عامًا تلو الآخر، حتى اهتم بالأرض كثيرًا.
لكن لم يتوقف الأمر على تعلم مهارات مهنية فقط، وإنما نشأ الباز بين عائلة تقدس وتهتم بالفكر والثقافة باعتبارها كنز الإنسان الحقيقي، فعشق الباز الكتب والقراءة والانتفاح على العالم الخارجي، الأمر الذي ورثه عن والده، الذي زرع في قلبه المساواة بين المرأة والرجل، الأمرالذي نفتقده كثيرًا في مجتماعتنا الحالية، ومن هنا انطلق العالم فاروق الباز نحو الثقافة والابداع.
الأمر الذي جعله يقرر مصيره نحو عالم الجيولوجيا عندما كان لا زال في المرحلة الابتدائية لعشقه لها، ولأنه كبر بين عائلة تحترم اختيارات الآخر وتدعمه، لم يتلقى الباز أي اعتراضات من أسرته على قرار تخصصه الفريد آنذاك.
ومن هنا بالتحديد ورث فاروق الباز حرية الاختيار، بل واحترام قرارات الآخر، الأمر الذي طبقه بدوره مع أبنائه، فلم يجبر أحدهما على دراسة معينة أو حياة معينة، وإنما ترك لهم حرية الاختيار، مؤمنًا أن الإنسان يبدع ويتألق فيما يحبه ويفضله، ليس فيما تراه العائلة مناسبًا له، وتلك السياسية التي ورثها عن عائلته وبالإضافة إلى الاجتهاد العظيم والسعي وراء أحلامه، كانت نافذة فاروق الباز نحو العلم والإبداع، وصولًا لأن يصبح واحدًا من أعظم العلماء العرب الذي شهدهم العصر الحديث.
اقرأ أيضًا: هل تعرف السر الذي جعل د.مجدي يعقوب يتخصص في أمراض القلب؟.. تفاصيل مدهشة
هل الغربة قد تحطم أحلامك؟
لاحق فاروق الباز حلم المرحلة الابتدائية الذي بدأ بحب دراسة الجبال والصخور والجيولوجيا، وانتهى بحصوله على شهادة البكالوريوس في علوم الكيمياء والجيولوجيا من جامعة عين شمس، التخصص الذي عشقه منذ طفولته وأصبح يزداد عامًا تلو الآخر وحرص على كشف خبايا وأسرار ذلك العلم، ليرحل بدوره إلى الولايات المتحدة الأمريكية من أجل استكمال رحلة الدراسة والاستكشاف، ليحصل بدوره في عام 1961 على شهادة ماجستير العلوم في الجيولوجيا، كما شهد عام 1964 حصوله على شهادة الدكتوراه في الجيولوجيا.
لكن بين التخرج الجامعي ورحلة الماجستير والدكتوراة، خاض العالم فاروق الباز لحظات صعبة مؤرقة لا يواجهها إلا من آمن بحلمه وشغفه، فلحظات الغربة في الولايات المتحدة بعيدًا عن وطن وأرض عائلته ليست سهلة على الإطلاق، ففجأة تجد نفسك وسط عالم لا يشبهك أبدًا، حيث تعرض الباز لأزمة اختلاف الثقافات والعادات والتقاليد التي يعد من الصعب التأقلم عليها، وذلك بالتحديد كان هو الدافع وراء قوة نبيل الباز ليثبت أنه قادر على الوقوف بشموخ وتحدي من أجل النجاح ومواصلة أحلامه.
اقرأ أيضًا: اعرف ولاد بلدك| مصريون يضيئون العالم بالتعليم
كيف وصل فاروق الباز إلى العمل في وكالة “ناسا“؟
عام 1966 شارك فاروق الباز في اكتشاف حقل المرجان، الذي يعد أول الحقول النفطية البحرية في خليج السويس، وصولًا إلى المحطة الفارقة في حياة الباز.
بين عامي 1967 و 1972 شارك الباز في برنامج “أبولو“، باعتباره مشرف على تخطيط العلوم القمرية في مؤسسة بيلكوم، ومن هنا تم اختياره سكرتيرًا عامًا للجنة اختيار مواقع الهبوط على سطح القمر لبعثات “أبولو“، بالإضافة إلى أنه عين مسؤولًا عن هبوط 12 رائد فضاء على القمر، وأيضًا المسؤول عن الملاحظات المرئية والتصوير، ورئيس مجموعة تدريب رواد الفضاء على انتقاء عينات مناسبة من أحجار القمر.
اقرأ أيضًا: عصام حجي.. مصري داخل وكالة ناسا
هنا كان السر وراء انضمامه إلى وكالة الفضاء ناسا، حيث كان يقدم نتائج البعثات القمرية إلى وكالات الأنباء، ليثبت جدراته في تلك السنوات، وفي عام 1970 حصل على الجنسية الأمريكية.
لينطلق بعد عامين إلى تأسيس مركز دراسات الأرض والكواكب، للتوالى الإنجازات بعد ذلك، ففي عام 1973 عين من قبل ناسا باحثًا مسؤولًا عن تجربة عمليات رصد الأرض وتصويرها، في أول البعثات الأمريكية– السوفيتية المشتركة، التي أقيمت في يوليو 1975.
اقرأ أيضًا: 4 علماء مصريين تركوا بصمة حول العالم
اكتشاف طبيعة الصحراء:
خاض فاروق الباز عالم اكتشاف الصحاري، حيث عمل على تصوير البيئات الصحراوية، بالأخص الصحراء الكبرى في شمال إفريقيا وشبه الجزيرة العربية، ليقوم برحلات فريدة إلى الصحاري من أجل فهم طبيعتها واكتشافها.
وصولًا إلى مصر مجددًا، عمل الباز مستشار العلوم للرئيس الراحل أنور السادات لمدة أربع سنوات، وخلال تلك الفترة أصدر الرئيس قراره من أجل استصلاح أراضي الصحراء، فاختار الباز البقع الصحراوية التي يجب أن يتم تطويرها وما هي الموارد الطبعية لكل منطقة، وانطلقت المشاريع نحو تطور الصحاري.
أما على الصعيد العالمي، واصل فاروق الباز أبحاثه الصحراوية لمدة أربعة عقود، حيث أحدثت طفرة في مجال الطبيعة الصحراوية، فساعدت أبحاثه في تفسير ظواهر طبيعية يجهل سببها، حتى وصلت دراساته إلى تكرارها في صحراء العالم.
نظرًا لاعتباره رئيس لجنة المخاطر البيئية والتغيير العالمي في الأكاديمية العالمية للعلوم، قاد فريقًا من العلماء في بعثةٍ إلى ست دول خليجية، أثناء حرب الخليج عام 1991، من أجل متابعة آثار الاضطرابات البيئة، بالإضافة إلى تعريف الوطن العربي عن التضاريس الصحراوية.
اقرأ أيضًا: هل حقًا اخترع “الجزري” أول روبوت في التاريخ قبل 8 قرون؟ .. اعرف الحقيقة
العالم الشهير “فاروق الباز“:
اشتهر العالم الباز بكونه رائد تطبيق البيانات المنقولة عن طريق الفضاء لاستكشاف المياه الجوفية، بالإضافة إلى استخدم صور الأقمارالصناعية لتحديد مناطق الكسر، وبيانات الرادار للكشف عن دورات مدفن الرمال من الأنهار، ومن هنا تعين مستشارًا أوليًا للجنة العالمية المعنية بالمياه التابعة للبنك الدولي– الأمم المتحدة للقرن الحادي والعشرين.
بالإضافة إلى انجازاته العظيمة، اتجه العالم فاروق الباز إلى تأليف عدة كتب علمية منها: “القمر كما شوهد من قبل” (1970)، “أبولو على سطح القمر” (1978)، و“ملاحظات رائد الفضاء من مهمة أبولو– سويوز” (1978)، “تقرير موجز عن العلوم: الرصد البصري والتصوير الفوتوغرافي” (1979).
حاز فاروق الباز على عدد كبير من الجوائز والأوسمة، من بينها جائزة الإنجاز لأبولو التابعة لوكالة الفضاء ناسا، بالإضافة إلى ميدالية الإنجاز العلمي، وجائزة كارولين وتشارلز إيرلندا لعام 2013 من جامعة ألاباما في برمنجهام.
أما عن عالم الصحراء، أطلقت الجمعية الجيولوجية الأمريكية “جائزة فاروق الباز لبحوث الصحراء” عام 1999، وهي جائزة سنوية، تعد بمثابة مكافأة الابداع والانفراد في دراسات الأراضي القاحلة من قبل الخبراء في شتى أنحاء العالم، ثم “جائزة فاروق الباز للطالب” التي تقدم سنويًا إلى طالب واحد وطالبة من خريجي الدراسات العليا، من أجل التشجيع على الخوص في خبايا البحوث الصحراوية في جميع أنحاء العالم.
ليصبح بذلك العالم “فاروق الباز” واحدًا من أبرز العلماء المصريين، الذي قدموا إنجازات عالمية وأحدثوا طفرة مهنية وعلمية في مجالات مختلفة، بداية من الفضاء وصولًا إلى أعمق نقاط الأرض، حيث أصبحت أبحاثه ودراساته الجيولوجية، مرجع الكثير حول العالم من أجل فهم الطبيعية الأرضية الخبايا الجيولوجية، للمساهمة في الابداع والابتكار، واكتشاف أسرار لم تعرف بعد.
اقرأ أيضًا: تعرف على العالم “ابن النفيس” مكتشف الدورة الدموية الصغرى