دينا شحاتة
“اضحكوا مع جونبلان حتى الموت.. وأبكوا”.
هل يتحدد مدى سوء الشئ لأنه قبيح فى ذاته ؟!
أم لمدى تأثيره فى ذاتك وما يخلفه وراءه من تشوه فى مدى رؤيتك تجاه العالم ؟!
ربما هنا تكمن مأساتي مع ما فعله (جونبلان ) بطل رواية “الرجل الضاحك” لفيكتور هوجو، كانت تلك أولى قراءاتي في الأدب العالمي، أذكر أنني كنت على مشارف بوابة العشرينات بما تتزين به تلك الفترة من أحلام وردية وتقدير غير واعي للواقع بما يحتمله من شرور، فالخير عندي خير مطلق والشر مطلق فى ذاته، لم أجرب المنطقة الرمادية لعدم علمي وقتها بوجودها من الأساس، كنت كذلك حتى وقعت أسيرة يومًا بين سطور فيكتور هوجو لأطّلع على (جونبلان ) ذلك الفتى المسكين الذى شوه وجهه بشكل رهيب بشكل يظهر كأن وجهه يضحك على الدوام !!
“جونبلان لم يضحك قط، كان وجهه يضحك إلا أن قلبه حزن حزن الموت مسكين إذا دهش ضحك.. وإذا خاف ضحك، وإذا حزن ضحك.. وإذا غضب ضحك”.
هكذا يتسلل فيكتور هوجو الى عقلي.. ينزع عني مساحتي الوردية ويجبرني لكي أنظر خلفي، أقاوم قلبي يحدثني أن العالم مكان جيد، عقلي يتضامن مع هوجو لقد كان يحدث ذلك فى أوروبا فى القرن السابع عشر، هذا حدث بالفعل ، فلتكملي وتدعيه ينهي قصته !!
فها هو جونبلان مثلك يفكر فى شقاء الإنسان، لكنه كان يفكر كثيرًا وكان قلبه يبكي ولكن وجهه يضحك إلى الأبد، عاتبت فيكتور هوجو أليس ذلك قاسي جدًا، أن تجعله لا يملك وجهًا يعبر عنه، ألم يكفي أن قلوبنا لا تستطيع الإفصاح فى أحيان كثيرة، فأعطاني الإذن أن أبكي
بكيت مع تلك العبارة التى كتبت على المركبة الذى يقدم بها جونبلان عروضه ليضحك الجمهور “اضحكوا مع جونبلان حتى الموت.. وأبكوا”.
أبكي على أرسوس ذلك الرجل الفيلسوف الذى أوى جونبلان إلى كنفه هو وفتاة ضريرة والتى كان يقدمها للجمهور بقوله: “أننا جميعًا مكفوفو البصر وأنا كفيلسوف أشدكم عمي لأني لا أعترف بجهلي”.
ثم يزداد حزني عندما يكتشف أمر جونبلان وأنه من عائلة نبيلة ليتحول من مهرج الى لورد فى لمح البصر وهو يخطب فى مجلس اللوردات قائلا : “أنا، من أنا ؟ صوت من عالم مجهول يهيب بكم أن تفتحوا قلوبكم للشعب! خلقت مع الشقاء، أنا أتكلم الآن ولكني أحفر فى ماء ولا يجد صوتي إلا الصدى”.
أحزن لمدى مأساته عندما تدوى القاعة بالهتاف والضحك، فوجهه الضاحك لا يمكن أن يعبر عن قلبه الذى ينزف ألما
أذكر أنني عندما قرأت تلك الرواية كانت تلك المرة الأولى التى تنهمر دموعي عند قراءة عمل أدبي، بكيت بعدها وأنا أقرأ بعض الأعمال الادبية، ولكن دومًا البدايات لها وقع خاص على النفس.
فربما التوقيت الذي قرأت فيه تلك الرواية والذي كنت فيه على الضفة الأخرى من النهر حيث جميع الأصدقاء جيدين والحياة عادلة، وهناك متسع من الوقت لفعل كل شئ، كنت على الجانب الآخر حيث لا يوجد هناك اختيارات متعبة، ولا أنصاف حلول، ولا طرق مرهقة ربما ذلك هو الذى عظّم الأثر فى نفسي.
فتلك الرواية مهدت لي الطريق كي أتعرف على ملامح العالم بكل ما يحتمله من شرور، كانت بمثابة الخطوة الأولى نحو ذلك العالم ومخاوفه.
قرأتها مرة واحدة فقط، لم أستطيع أن أعيد قراءتها مرة أخرى، على الرغم من أنني قرأت فيما بعد روايات أكثر مأساوية وواقعية من تلك، ولكن وقع هذه الرواية كان حقًا مختلف، ربما لتلك الجملة التى يعبر بها ارسوس الفيلسوف عن جونبلان قائلًا: “أنت مخيف ..أنت مسكين”، فترابط العلاقة بأن يكون الشخص مخيف فيجعله ذلك يستحق التعاطف أكثر بدلًا من النفور منه، كان ذلك يمثل المعنى الحقيقى للمأساة.
نبذة عن الكاتبة
دينا شحاتة
أحد الكتاب الشباب لمنصة كلمتنا
طبيبة بيطرية حاصلة على بكالوريوس طب بيطري دفعة 2009 وكاتبة روائية
صدر لها ثلاث أعمال روائية
رواية غفران 2018
رواية ثلاثاء آخر 2021
رواية رحيل وغربة 2021
للتواصل :